زياد غصن |        قبل أسابيع، كان صحفيون سوريون يتدربون في مدينة طرطوس الساحلية، بدعم من الصليب الأحمر الدولي ووزارة الإعلام، على تغطية الموضوعات الخاصة بمخلفات الحرب السورية، والتي لا تبدو متشابهة في كثير من جوانبها مع مخلّفات حروب أخرى.
في الحرب السورية، ليست الألغام والأسلحة وحدها ما يهدد المستقبل، وإن كانت المسبّب الأول للموت والإعاقة الجسدية. فالسنوات التي حكم فيها فكر التطرف والتشدد والفوضى مناطق مختلفة من البلاد تبدو اليوم أولى بالمراجعة والتقييم.

فهناك آلاف الكتب والمنشورات التي طبعت ووزعت مجاناً خلال هذه السنوات، وآلاف الدروس والمحاضرات والخطب التي ألقيت على مسامع ناس كثيرين، وآلاف الإجراءات التي تمنع وتسمح، تحرّم وتحلّل.
هذا إضافة إلى ما كان قد تسلل خلال سنوات ما قبل الحرب من مؤلفات وكتب وأفكار دينية تخالف ما عُرف به المجتمع من تسامح واعتدال في تديّنه.

لذلك، إذا كان من سؤال يجب أن يطرح أثناء الحديث عن مخلفات الحرب فهو كالآتي: ما مصير آلاف الكتب والمؤلفات والمنشورات الدينية المتهمة بالتطرف والتحريض على القتل؟ وهل إطلاق البعض أحكاماً بـ«الإعدام» المسبق على جميع الكتب والمؤلفات الدينية توجُّه صحيح؟.

ليس لدى رئيس اتحاد الكتاب العرب، نضال الصالح، أدنى شك في أنّ «أحد أسباب ما حدث، بل ربّما من أهم أسبابه، ذلك الإنتاج الفكري الذي كان يتناسل بيننا على غفلة من المعنيين بأمر الفكر والثقافة، وربما على إرادة من بعض منهم».

ويذهب الصالح في حديثه للى أبعد من ذلك، فيشير إلى أن ذلك لم يحصل فقط «في الزمن السابق لبدء الحرب، بل ظلّ يتناسل عبر غير قناع وغير وسيلة، وليس بالضرورة أن يكون من خلال الكتب وحدها».
أما عن مصير تلك الإصدارات، فهذا سؤال يحيله رئيس اتحاد الكتاب على «من أصدرها، ومن كان يعنيه أمر الفكر والثقافة في السنوات التي مضت»، داعياً «المعنيين بقضايا النشر إلى تشكيل لجنة على نحو سريع تتخذ معه قرارات حاسمة في هذا المجال. ومن ذلك ضرورة وضع خطة وطنية أو مشروع وطني يحمي الوعي مما تهدف إليه هذه الإصدارات، وما تحاول تقويضه من قيم التنوير، وتكريس نقيضها، أي الفكر المضاد لثقافة الحياة».

هذا الفكر الذي لم يعد حبيس الكتب والكتيبات والمنشورات فقط، بل تحوّل إلى سلوك وثقافة حياة لدى مواطنين لم يجدوا خياراً سوى تحمّل شريعة «داعش»، والتأقلم مع تعاليم «النصرة»، والقبول بحكم المجموعة المسلحة الأقوى في منطقتهم، الأمر الذي يجعل البعض يطالبون بألّا تقتصر عودة مؤسسات الدولة إلى المناطق المحررة على الجانب الخدمي والاجتماعي، فالحاجة إلى تحرك ثقافي وفكري في تلك المناطق لا تقل أهمية عن إعادة افتتاح مخبز أو مستوصف أو مدرسة.

حركة مقبولة

الواقع ليس بتلك السوداوية، فالساحة المجتمعية والثقافية خلال سنوات الحرب لم تكن متروكة لهذا الفكر، على الأقل في المحافظات والمناطق الخاضعة لسيطرة الدولة. العديد من المؤسسات الثقافية الخاصة والرسمية حافظت على الحد الأدنى من نشاطها، وفي أحيان كثيرة كان نشاطها مفاجئاً مقارنة بظروف الحرب والعقوبات الخارجية. ولعل البيانات التي يطرحها مدير الشركة السورية لتوزيع المطبوعات، آدم محمد، عن عدد الكتب التي خرجت من سوريا وتلك التي دخلتها بشكل قانوني، تحمل سمة المفاجأة التي تحدثنا عنها آنفاً.

يكشف محمد أنّ التقديرات تشير إلى أن عدد الكتب التي خرجت من البلاد خلال العام الماضي، بهدف المشاركة في معظم المعارض العربية للكتاب، بما فيها تلك المقامة في دول الخليج، بلغ أكثر من 200 ألف كتاب، وذلك منذ بداية عام 2017 ولغاية شهر تشرين الثاني منه. وقد غلب على معظم تلك الكتب الطابع الأدبي والدراسات العلمية والترجمات والمؤلفات الدينية، التي زادت نسبتها بين الكتب المصدرة لتصل إلى نحو 40% خلال سنوات الأزمة مقارنة بنحو 20 إلى 30% قبل الأزمة. وهو تطور قرأه مدير الشركة السورية لتوزيع المطبوعات على أنه مؤشر على هجرة معاكسة للمؤلفات والكتب الدينية، أو على الأقل محاولة للبحث عن أسواق خارجية.

لكن المسألة لا تتعلق فقط باستمرارية حركة النشر الثقافي والفكري في مواجهة فكر متعدد المرجعيات والغايات، إذ إن الفيصل في الحكم على جدوى حركة النشر تلك يبقى رهناً بعناوين تلك الإصدارات واهتماماتها ومدى مقاربتها ليوميات الحرب التي تعيشها البلاد.

وحسب ما يذكر الصالح، فإن «حركة النشر كانت مقبولة نسبياً بالقياس إلى الظروف التي عصفت بالبلاد». وحول إذا ما كانت الحرب قد تركت تأثيراتها في عناوين الإصدارات واهتمامات المؤلفين، فالإجابة – كما يضيف – «لن تكون صائبة إن اكتفت بالإيجاب أو النفي، بل بما بينهما، ومسوّغ ذلك أنّ ثمّة فروقاً، لا فرقاً واحداً، بين المؤسسات الثقافية الرسمية ودور النشر الخاصة على غير مستوى، ومن ذلك شواغل النشر، ففيما استجابت هذه المؤسسات لمتغيرات الواقع، فوجهت اهتمامها نحو المؤلفات التي تُعنى بالحرب، على نحو مباشر أو غير مباشر، لم تفعل دور النشر الخاصة ذلك إلّا على استحياء ظاهر».

ولم يقتصر الحال على ما يمكن تسميته بالصادرات، إذ إن تقديرات الشركة الحكومية المذكورة تبيّن أنّ عدد الكتب التي دخلت البلاد من معظم الدول العربية، وخلال الفترة نفسها، بلغ وسطياً نحو 150 ألف كتاب، تمحورت عناوين معظمها حول القصص والروايات والترجمات والإنتاج الفكري والسياسي والدراسات والأبحاث وبعض الكتب الدينية.

وهنا يحاول الكاتب والصحفي عقبة زيدان تبديد المخاوف المبالغ فيها من عبارة الكتب الدينية، فيشير إلى أنّ من الضروري «أولاً أن نحدد الكتب التي يطلق عليها كتباً دينية. فهل كتب التراث العربي مثلاً هي كتب دينية، مع ما تحويه من تنوع؟»، مضيفاً: «المشهد ليس ثابتاً، وعلينا أن نتمعن جيداً في إصدارات كثير من دور النشر، وأن ننظر إلى حركة الترجمة النشطة، وحقوق الترجمة التي يدفع الناشرون العرب لقاءها مبالغ كبيرة. عندها سندرك أن تحولاً يحدث في حركة النشر العربية، وسنجد أن الكتب الفكرية والعلمية تستحوذ الآن على ساحة النشر العربي. وفي الوقت نفسه سنجد الكتاب الديني (الديني التراثي المعتدل) ما زال يحظى بانتشار في المعارض العربية كلها».

هجرة من نوع آخر
حتى وقت ليس بالقليل، لن يكون باستطاعة مؤلفات دينية عديدة أن تجد طريقها علانية إلى القارئ السوري كما كان يحدث سابقاً. الصبغة الدينية المتشددة التي غلّفت عمل وأهداف معظم المجموعات المسلحة ستكون كفيلة بوضع عوائق رسمية واجتماعية تحول دون تحقيق ما يسميه البعض بـ«غزوة» متطرفة جديدة، لا وربما تدفع بالكثير من الكتب والمؤلفات الدينية والثقافية «المرفوضة»، المنتجة محلياً أو المستوردة، إلى هجرة البلاد بحثاً عن بيئة ملائمة لتسويقها كما يعتقد مدير الشركة السورية لتوزيع المطبوعات، الذي يجزم بأن القسم الأكبر من الفكر المحسوب على الوهابية والتشدد والتطرف يغادر سوريا بطرق مختلفة!

المصدر: جريدة الاخبار