الاصلاحية | الملف |
بحثت دراسة صادرة عن مركز مداد في مشرات التجارة الخارجية السورية خلال ربع قرن، وقالت الدراسة إن التجارة الخارجية في سورية تعاني من خلل هيكلي واضح، مستندةً بذلك المؤشرات المستخدمة في التحليل.
الخلل وفق ما أكدت الدراسة يتمثل أساساً في درجة التركز العالية في القطاعات، في جانبي التصدير والاستيراد، لكن المشكلة تبرز بشكل أكبر في جانب التصدير، القائم بصورة رئيسة على المواد الخام والصناعات الاستخراجية بما فيها النفط، كمكون رئيس.
وأشارت الدراسة إلى ذلك الأمر يتقاطع مع دراسات سابقة حول التجارة الخارجية في سورية، التي بيّنت أن تجارة سورية الخارجية «تعاني هي الأخرى من خلل واضح، فتتميز التجارة الخارجية بتركز سلعي في جانب الصادرات يناظره تركز سلعي في جانب المستوردات، وسلع أولية (زراعية أو استخراجية) في جانب الصادرات مقابل مدى واسع من المستوردات الاستهلاكية والاستثمارية، وقد جعل ذلك الاقتصاد الداخلي تابعا للمؤثرات والمتغيرات العالمية المتعلقة بالطلب على أو العرض من هذه السلع، وجاءت الآثار المتبادلة بين هيكل الإنتاج والصادرات مؤكدة أن استجابة الصادرات للمتغير النفطي، وبما يؤكد أهمية القطاع الاستخراجي وبروز قطاع النفط كقطاع ذي أهمية خاصة في النشاط الاقتصادي»>
وتكشف البيانات الإحصائية للتجارة الخارجية في سورية طوال مدّة الدراسة (1992-2016) تركّز الصادرات بصورة أساسية في قطاع النفط، إذ شكّل نسبة بين 52% و64% من إجمالي قيمة الصادرات في المرحلة الأولى (1992-1999)، لترتفع النسبة بشكل ملحوظ بعد ذلك، مسجلةً 75% عام 2001، ومن ثم تراوحت بين 67.7% و89.96% في المرحلة الثانية (2000-2005).
وشهدت المرحلة الثالثة (2006-2011) انخفاضاً ملموساً في تصدير النفط، وذلك دون مستوى 51%، علماً أنّ نسبة صادراته إلى إجمالي الصادرات السورية انخفضت دون مستوى 38% عام 2009، ومن ثم تعمّق الانخفاض، بشكل أكبر في المرحلة الرابعة (2012-2016) بسبب الحرب على سورية وتداعياتها على قطاع النفط، لتسجل النسبة 21.7% عام 2012، منخفضة دون مستوى 6% بعده، مقابل تحسن ملموس في صادرات الأغذية والحيوانات، إذ ارتفعت نسبتها إلى إجمالي الصادرات من نحو 16% عام 2011 إلى 27.6% عام 2012، وصولاً إلى نحو 44% عام 2016، ما يعني أن وجود مخاطر كبيرة في قطاع التصدير ناجمة عن التركز السلعي الكبير، تحديداً في المواد الزراعية، المرتبطة بظروف الطقس بشكل رئيس، ما يجعل حدوث اضطرابات مناخية كالأمطار والسيول المتأخرة في أي عام؛ تهديداً كبيراً لقطاع التصدير السوري نظراً لخسارة مؤثر في الإنتاج الزراعي الذي يحظى بأعلى نسبة من إجمالي الصادرات.
ووفقاً للدراسة فإن الخلل يتضح في تركيبة الصادرات القطاعية أكثر بالنظر إلى تركيبها بحسب طبيعة المواد المصدرة، والتي تكشف عن تركز الصادرات في المواد الخام، والتي بلغت نحو 81.67% في العام 2000، لتبقى مرتفعة رغم انخفاضها التدريجي على مدى السنوات التي تلت العام 2000 وحتى 2010، إذ بقيت النسبة فوق 40%، في المقابل ارتفعت صادرات السلع المصنوعة من 13% عام 2000 حتى 38.23% عام 2010، وهذا دليل على تدني مستوى القيمة المضافة في الصادرات السورية، طالما أن نصفها مواد خام تقريباً، علماً بأن التطور في التصنيع لا يتوافق مع متطلبات التنمية الاقتصادية بشكل عام، والنمو الاقتصادي بشكل خاص.
تتضح المشكلة أكثر بالنظر إلى تركيبة الصادرات بحسب استخدام المواد، إذ إن السلع الوسطية تتراوح بين 55% إلى 88% من إجمالي الصادرات، والاستهلاكية بين 11% و43% مع تحسن ملموس بعد العام 2003، في حين تتراوح نسبة الصادرات من السلع الرأسمالية بين 0.23% و1.24%، وهي نسبة متدنية جداً.
ويبرز التركز السلعي (القطاعي) في جانب المستوردات، بشكل رئيس؛ في القطاع الصناعي، الذي يحظى بقرابة نصف المستوردات، ولكن، جلّها من المواد الوسيطة، والتي تراوحت بين 33% وقرب 80%، وعلى نحو مماثل أيضاً مستوردات السلع المصنوعة، والتي تراوحت نسبتها بين 37.8% و57%، ما يشير إلى تدني مستوى التصنيع، وعدم قدرته على تلبية الحاجات المحلية.
إلى ذلك بينت الدرسة أنه في المرحلة الأولى الخاضعة للبحث(1992-1999)، كان اسهام التجارة الخارجية في الناتج المحلي الإجمالي (القيمة المضافة في الاقتصاد)، كان منخفضاً نسبياً، وشبه انغلاق للاقتصاد عن التجارة الدولية.
فيما زاد دور التجارة الخارجية عدة أضعاف في انفتاح الاقتصاد المحلي على العالمي مع العام 2000 وما بعد، مع ارتفاع قيم الصادرات والمستوردات، بنسب أعلى من معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي،لينخفض في المرحلة (2012-2016) إثر تداعيات الحرب على سورية، وعودة نسبية لانعزال الاقتصاد السوري عن مجريات الاقتصاد العالمي، لكن ليس كما كان الحال قبل العام 2000، علماً بأن صغر الاقتصاد المحلي قياساً إلى الاقتصاديات العالمية، يجعله قليل التأثر بتقلبات الاقتصاد العالمي، ولو كانت درجة الانفتاح كبيرة، وهذا ما يبرر انخفاض درجة تأثر الاقتصاد المحلي بالأزمة المالية العالمية.
وخلصت الدراسة في نتئجها إلى إظهار مستوى الخلل في قطاع التجارة الخارجية ودوره السلبي في النمو الاقتصادي طيلة المدة المدروسة، ولخصت أبرز نقاط الخلل في التجارة الخارجية بما يأتي:
- يوجد خلل بنيوي في قطاع التجارة الخارجية، يترجمه عجز مستمر في الميزان التجاري، على مدى 21 عاماً من أصل 25 عاماً، يعكس بدوره عجز محاولات تحرير الاقتصاد بعامة، والتجارة الخارجية بخاصة؛ عن الحدّ من ذلك الخلل، أو معالجته، هو ناجم عن العقلية التي تحولت إلى عرف في التجارة الخارجية؛ يقوم على إيجاد أسواق للمنتجات المحلية، بغض النظر عن جودتها، بدلاً من التخطيط للإنتاج بناءً على دراسات الأسواق الخارجية، لتلبية متطلبات الأذواق والجودة فيها، وهذ ما يشكل أحد أبزر المعوقات الداخلية لقطاع التصدير في سورية، ولا تشكل التجربةالفاشلةفيتصديرالحمضياتطوال الأعوام الماضية إلا مثالاً حياً لتلك المعوقات، وللعقلية السائدة في إدارة التجارة الخارجية.
- تُلاحظ هشاشة التوازن في الميزان التجاري بسبب التركز الجغرافي والقطاعي، قبل العام 2004، ونتيجة اعتماده على عائدات تصدير النفط الخام بالدرجة الأولى، ثم على تصدير الأغذية والنباتات والتوابل والحيوانات الحية فيما بعد العام 2004.
- لوحظت درجة تركز العالية، في جانبي التصدير والاستيراد، لكن المشكلة تبرز بشكل أكبر في جانب التصدير، القائم بصورة رئيسة على المواد الخام والصناعات الاستخراجية بما فيها النفط، كمكون رئيس، ثم الأغذية والمزروعات والتوابل والحيوانات الحية.
- لا تعكس قيمة الصادرات قدرة الجهاز الإنتاجي، كما لا تحظى التجارة الخارجية السورية بأهمية نسبية في التجارة العالمية، ولا في التجارة العربية، نظراً لإسهامها المتواضع جداً.
- تخلف المنتجات المصدرة مقارنة بالمستوردة، والزيادة في سعر كيلو المستورد عن سعر كيلو المصدر.
- لاتوجدميزاتتنافسيّة مهمة، في أي قطاع من قطاعات التجارة، باستثناء بعض الحالات في مراحل محددة، ولصناعات استخراجية بحتة (النفط بشكل رئيس)، التي لا تملك أية قيم مضافة في التصنيع، ومثلها، مواد زراعية وأغذية وحيوانات حية، ما لا يمكن حسبانه ميزة تنافسية حقيقية.
- إنّ الأداء السلبي للتجارة، بنيوي، ويرتبط بعوائق داخلية في قطاع التصدير، تحدّ من قدرته في تحسين أداء التجارة، ودعم النمو الاقتصادي، وذلك بسبب التأثير السلبي له في إجمالي الناتج المحلي.
- يُلاحظ قصور الإنتاج المحلي عن تلبية الطلب الداخلي، وبالتالي ضعف مؤشر الاكتفاء الذاتي، نظراً للاعتماد على المستوردات لتلبية أكثر من ربع الطلب المحلي.
يضاف إلى ذلك نقاط خلل أخرى، على أساس متابعة واقع التجارة الخارجية، في سورية، خارج نطاق المؤشرات المعتمدة في البحث، يمكن إيجازها بغياب الشفافية في العملية التجاري، تحديداً في غياب بيانات دقيقة عن الصادرات والمستوردات، نظراً لعدم الإفصاح عن الأسعار الحقيقية للمستوردات والصادرات من قبل المستوردين والمصدرين للتهرب من الرسوم والضرائب وعدم الإفصاح عن حجوم أعمالهم الحقيقية، والتخوف من تعهدات قطع التصدير، وعودة تطبيقه في أي وقت، يساعدهم في ذلك وجود تغطية للعديد من مخالفاتهم في بعض الجهات الحكومية، رغم وضوح آلية الاستيراد والتصدير، تحديداً لدى وزارة الاقتصاد والتجارة الخارجية، إضافة إلى تدنٍّ في مستوى الخدمات اللوجستية، والفساد الموجود في بعض مفاصل العمل الجمركي.
واقترحت الداسة البحثية العمل على اتجاهين متوازيين، لمعالجة الخلل في قطاع التجارة الخارجية والانتقال به إلى قطاع مسهم بشكل رئيس في النمو الاقتصادي، والحدّ من الفقر، هما:
- تعزيز قطاع التصدير، كما هو محدد في الاستراتيجية الوطنية للتصدير، التي أقرتها الحكومة السورية في شهر آذار 2018.
اقترحت الخطة الوطنية للتصدير مجموعة من الحلول المهمة لمعالجة مشكلات التصدير بشكل جذري، يستلزم خطة عمل على المدى القصير والطويل، وذلك على الشكل الآتي (بإيجاز مع الحفاظ على المعنى الدقيق):
- تحديد الأدوار المطلوبة من الجهات المختلفة (وزارات الزراعة والصناعة والاقتصاد والتجارة الداخلية وحماية المستهلك، إضافة للمصرف المركزي) بشكل واضح ومكتوب، بغية دعم تشجيع الصادرات وتأمين التسهيلات المصرفية اللازمة لإتمام دورة الإنتاج التشغيلية، والترويج للصادرات السورية في الخارج.
- تسهيل نفاذ المنتجات السورية إلى الأسواق الخارجية عن طريق الخطط التسويقية والترويجية.
- تعزيز كفاءة الخدمات اللوجستية.
- ضمان كفاية الأنظمة والسياسات والأطر لدعم جودة المنتج السوري.
- تطوير برامج دعم وتمويل التصدير.
- إنجاز تحول تدريجي في هيكل الصادرات ينتقل من الأنشطة القائمة على استخدام الموارد الطبيعية إلى التكنولوجيا المتوسط، وأخيراً إلى صادرات عالية التكنولوجيا.
- تشجيع إقامة شركات متخصصة بتصدير المنتجات بهدف الاستفادة من وفورات الحجم، تحديداً تلك المتخصصة بتصدير المنتجات الزراعية.
- دراسة آلية سير العملية التصديرية المعمول بها حالياً، وتحديد مواطن الضعف الموجودة لا سيما ما يتعلق بتدفق الوثائق والمراحل الزمنية لإنجاز المعاملات والكشف على البضاعة وإخراجها؛ وذلك بهدف وضع مخطط سير عملية تصديرية تلتزم به كافة الجهات المعنية، وهنا اقترحت وزارة الاقتصاد إنشاء نافذة واحدة، إلكترونية، للتصدير.
- اعتماد التجارة القائمة على سلسلة العرض (Supply-Chain Trade) في سورية كمدخلٍ موازٍ لتعزيز التصدير، وصولاً إلى تمكين التخصص الرأسي، بإحلال ذكي لبعض المستوردات، من أجل تحسين ظروف التجارة الخارجية، وتفعيل دورها الداعم للنمو الاقتصادي.
للاطلاع على الدراسة كاملةً اضغط الربط :”الميزان-التجاري-السوري-في-ربع-قرن“
Post Views:
0