الاصلاحية | خاص |
هي لا تشبه حكاية ” إبريق الزّيت ” المعروفة في موروثنا الغنائي . لكنّها تشبهها بمكانٍ ما ، من حيث المفارقة والتّفكّه والقبض على لذّة المتخيّل السّردي .
أوس أحمد أسعد |
أخي ، منذ البداية سنتّفق على بديهيّة : أنّه لولا دالية الأجهزة الرقابيّة ذات الظّلال الوارفة، التي تعرّشُ على الجدران والأسطحة والشّرفات العالية، وفي الأقنية وحجرات النّوم ، لكانت الثعالبُ تقطفُ العنبَ وهو حصرم .
وتذرو البيادر الوفيرة في شتّى جهات الرّيح. وبما أنّ الشّياطين تكمنُ في التّفاصيل وتعشّشُ في الجزئيّات كما يُقال .
فإنّ القبض عليها وتسليمها للعدالة يأتي بأعلى درجةٍ من سلّم الأولويات والواجب الوطنيّ. وهذه مهمّة السّدنة المجهولين الذين نذروا أنفسهن للتصدّي للخطأ أيّاً كان وتصويبِ المسارات الملتوية والمنحدرة نحو الهاوية. با لعموم ، لن نختلف بأنّ المؤامرة الكونيّة الكبيرة طالت الشجر والحجر والبشر وكلّ ما يدبّ عل الأرض.
لكنها لم تنل من كفاءة الجهاز الرقابي المكلّف بضبط إيقاع أخلاقيّة المؤسسات الوطنيّة ومنع فسادها وترهّلها مهما كلّف الأمر.
الجهاز اليقظ الذي لا تفوته شاردة أو واردة مهما ” قصرت أخادعها وطال قذالها ” فهي ستصفعُ أولاً وأخيراً . ولإسكات ألسنة المتربّصين شرّاً بالوطن .
الشّاربين من النبع ،الباصقين فيه .
نقول: إنّ الرّقابة تمهل ولا تهمل. ألا ترون ميزان مؤسّساتنا الخدميّة والانتاجيّة الرّابح دوماً، والذي يغرق الوطن والمواطن بالنّعيم ؟!. لذلك ،سرديّتنا هذه تأتي من باب التّندّر وحسب.
حكاية نسجتها مخيّلة حالم افترضَ سماعها من أحد المعنيّين بالشأن الثقافي الفني في البلد والذي ” لم يشكُّ شخصيّاً بنزاهته وعلوّ ذائقته وعطائه الفنّي الجميل. وهو المشهود له بالكفاءة عند الكثيرين. ويتبوّأ منصباً فنّياً عالياً يسمح له بفصل القمح من الزّؤان ” قال: أقامت إحدى المفتّشات الموهوبات في البحث عن الشياطين الكامنة في التّفاصيل شهراً في ضيافتنا وهي تنقّب وتبحث وتفلّي الأدراج والثبوتيات والأرشيف والوثائق وذرّات الأوكسجين في حلوقنا، بحثاً عن فيروسات فساد، أو وثائق تكشف عن التآمر وهدر المال العام. علّها تحظى ولو بفرخ شيطانٍ صغير، لكن دون جدوى.
فما الذي ستفعله المسكينة وقد طُلب منها إنجاز مهمّتها على أكمل وجه، وتقديم تقرير مفصّل عن مشاهداتها بثبوتيّات واضحة الإدانة ؟.
ما لبث ذهنها الوقّاد أن تفتّق عن فكرةٍ ” إبريق الشّاي ” المفقود من المستودع . الذي لطالما شاهدته أثناء جولاتها المكوكيّة بين مكاتبنا .
بل وتستطيع التّأكيد بأنّها قد شربتْ من سائله اللّذيذ ذي اللون الخمري . لكنّها اليوم لم تره !. فما كان منها إلا أن حوّلتْ فكرتها إلى واقعٍ . فبعثتْ بكتابٍ رسميّ، ممهور بخاتم مؤسّستها إلى الجهات العليا مشفوعاً بغيرتها الوطنيّة العالية .
ليبادر المعنيّون بدورهم، وبكامل الإحساس بالمسؤوليّة والغيرة على المجتمع والوطن والزهدٍ بالمناصب. إلى تدبيج العبارات الصّارمة في كتابهم الموجّه لنا، مختوماً بالشّمع الأحمر والأصفر وكلّ ألوان الطيف. وإعلامنا بضرورة الردّ على جناح السرعة حول ملابسات اختفاء المغدور. وإلّا فالويل والثّبور لكلّ من تخوّله نفسه التّلاعب بمقدرات البلاد والعباد.
وطالما أنّ الأحدوثة كما يفترضها السّارد،قد حدثتْ في الزمان والمكان الحاضرين، لا في المرويّات التاريخيّة. فإنّ من حقّه هو والمتلقي أن يبهّرها قليلاً بتوابل التفكّه والتّشويق.
هكذا عمد صاحبنا إلى الرّد التّوضيحي على الجهات الرسميّة قائلاً : السّادة الموقّرون ، وردنا كتابكم القاضي بضرورة الكشف عن إبريق الشّاي المغيّب. خصوصاً بعد أن تأكّدنا من سلالته النّقيّة ، وانتمائه إلى عائلة أباريق ” علاء الدين ” السّحريّة . فجنّدنا فريق عمل متكامل من الاختصاصيّين بالمواصفات الإبريقيّة الخالدة. وعمّمنا صورته على كلّ المفارق المطبخيّة . ومارسنا شتّى صنوف الضّغط النفسي على المستخدمين المكلّفين بتقديم طلبات الشّاي والقهوة .
وبعد الاستقصاء و البحث المضني ،والاستعانة بالكلاب البوليسيّة المدرّبة ،وجهاز كشف الكذب ، ومراسلة الجهات العالميّة ذات الباع الطّويل في كشف ملابسات القضايا الكبيرة . واستثمار خبرة المفتّشين الدّوليين ، أمثال ” ميلس ” ” شرلوك هولمز” ” كادجيت ” إلخ ..تبيّن لنا التّالي : بأنّ الإبريق المغدور الذي كاد يصبح قضيّة ” رأي عام ” سافر مستوحشاً عبر رحلةٍ مضنية من المستودع عبر غابة من الوثائق الشائكة والكتب الرّسميّة التي تكلّفت مشكورةً عناء صياغتها مفتشتكم النّزيهة. وقرّر طلب اللّجوء إلى جمهوريّة ” المطبخ ” وهو الآن يقوم بواجبه الطّوعي في ملء كؤوس الضّيوف بالسّائل المحبّب. الذي نرجو ألّا يكون مشروباً محرّماً هو الآخر. ولجرأته العالية في الانكشاف ،لم يرتدِ طاقية الإخفاء أبداً .
هكذا قبضنا عليه متلبساً بخمرته. بعد أن صوّرنا جميع تحرّكاته، وأخذنا بصمات قبضته . وسنبعث كلّ الوثائق لكم بأسرع ما يمكن . ولكن لنا مطلب وحيد لو تكرّمتم بتلبيته وهو ألّا تتكلّفوا كلّ هذه المشاقّ ، في هدر المال العام على مندوبيكم ليصطادوا القشور . فمؤسّساتنا أيّها الأجلّاء غارقة في الفساد ، حتى أذنيها وتجّار الحرب ومافياتها الكبار يبيعون بنا ويشترون .
ورجاؤنا فقط هو أن تحاولوا القبض على تلك الحيتان التي ابتلعتْ الأخضر واليابس . وأن تدعوا لإبريقنا المسكين حريّة التجوّل بين المكاتب، مريقاً سائله الأحمر في أفواهنا كلّما عطشنا أو ألمّ بنا قهر مفاجئ. ودمتم لخير الوطن والمواطن.
من مذكرات إبريق .
أوس أحمد أسعد: كاتب وشاعر سوري
Post Views:
0