الإصلاحية | خاص |
أي نوع من العبث ذاك؟
منصة التحكيم | أسامة يونس |
ما جرى مؤخراً حول موضوع البالة، أعادني نحو 18 سنة إلى الوراء: القصة تبدو مكررة على نحو بائس وفاجع، بالتفاصيل ذاتها، والأبطال ذاتهم. والنتائج ذاتها. كأن الزمن لا يمضي نحو الأمام أبداً.
رتوش على الفقر:
ألبسة مستعملة تملأ الأسواق، يتزايد انتشارها ويتناقص، حسب مؤشر فقر أكثر دقة من مؤشر بورصة دمشق، وهي ككل “حلول” الفقر، من النوع “المسموح الممنوع”، ممنوعة رسمياً موجودة بحكم الأمر الواقع، وقوة المتاجرين فيها، تماماً كما في أزمة السكن التي جعلت البلاد تشهد ولادة أحياء كاملة خارج القانون، بأبنية عالية ومرافق خدمية.
بدت الدولة (بسلطاتها وحكوماتها المتعاقبة) وكأنها تزين الفقر للفقراء، و”تسمح” لهم بأن يسكنوا تحت أسقف من خشب. كذلك في موضوع الألبسة، بدت الدولة وكأنها ترقع ثياب فقرائها بدل أن تجعلهم يشمون رائحة الجديد.
التفاصيل ذاتها!
منذ نحو 18 عاماً أذكر أن البالة كانت موضوعاً في الصحافة، كان هناك نوع من الحماسة وأنت تناقش مبررات قرار وزارة الاقتصاد بمنع الاستيراد، وتفندها، خاصة ما يتعلق بحماية الإنتاج المحلي، ثم ما يتعلق بالأمراض التي قد تنقلها “البالة” (وهما أبرز سببين، كانا، وما زالا)، ثم إلى الجمارك ووزارة المالية، لتقول إن منع التهريب يجب أن يكون على الحدود، وليس باقتحام المحل التجارية، ثم إلى غرفتي التجارة والصناعة، لتسأل عن تلك المنتجات التي تطلب الحماية من ألبسة مستعملة، تنظر إليها الطبقة المخملية في البلاد باحتقار، ثم إلى مجلس الشعب لتسأل عن دوره في كل ذلك.
كل ذلك كان يتم بنوع من “تفسير الماء بعد الجهد بالماء” فأنت تناقش قضية تبدو أكثر من واضحة، والواقع يقول بكل بساطة: إن الناس لا يحبون البالة، ولو أنهم كانوا قادرين على شراء الأفضل بالسعر الأنسب، لما وجدت قضية البالة، ولما ملأت الأسواق، بالمعنى الاقتصادي المجرد. راحت وزارة وجاءت أخرى .. ثم راحت وزارة .. وجاءت أخريات .. وعدنا: قرار وزير التجارة الداخلية (الذي وقعه معاونه نيابة عنه، وبالتفويض كما ذُكر في الحاشية، قبل أن يتبين أنه لم يكن تفويضاً)، بدا كأنه مكتوب منذ عشرين عاماً ويُستعاد بطريقة لا تشعرك إلا بالعبث إن حاولت تفنيد ما فيها: “إشارة إلى كتاب وزارة الاقتصاد رقم .. تاريخ .. حول كثرة انتشار محلات الألبسة المستعملة، وتأثير ذلك على صناعة الألبسة الوطنية وتطويرها، وكون الألبسة المستعملة غير مسموح استيرادها وتدخل عن طريق التهريب مما يلحق أكبر الضرر بالاقتصاد الوطني .. الخ” وكما كان يحدث سابقاً، وكي تكتمل اللوحة، وتُستعاد بتفاصيلها، يثير القرار ضجة كبيرة، هذه المرة ظهرت عبر “الفيس بوك”: تفنيد القرار ومناقشته، كان ينسجم مع “عقل الدولة”: الألبسة الجديدة مرتفعة الثمن، والفقراء ليس لهم سوى البالة، ولماذا نحارب الفقراء .. الخ من الحجج المضادة التي تؤكد، من حيث لا تريد، على أن البالة “حق” من حقوق الفقراء، وينبغي عدم المساس بهذا الحق! وكان وزير التجارة الداخلية عبدالله الغربي تناغم مع هذا الطرح حين وصف البالة بأنها “ألبسة الفقراء” وطالب بالسماح باستيرادها خاصة للأطفال واليافعين فتلك شريحة “يجب أن تفرح وتلبس وبأسعار معقولة (تصريح الوزير الغربي لـ “الإصلاحية” ) راجع المقال: الوزير الغربي: لهذا السبب استدركنا وتراجعنا عن قرار منع ومصادرة الباله
الجديد في القصة:
موقف الوزير الغربي، والعودة عن التعميم الذي أصدرته الوزارة، أدى إلى موقف جديد في القصة: لأول مرة هناك قرار حكومي رسمي (لم يُلغ حتى اللحظة، ولا نعرف إن كان رئيس الحكومة سيفعل) يلغي قراراً كان يطالب بتشديد الرقابة على جميع الأسواق والمحلات التي تتعامل ببيع الألبسة المستعملة وضبطها باعتبارها “مهربة” وحجزها(حسب التعميم الذي وقعه بالتفويض معاون الوزير، ثم أصدر قراراً غيره يلغيه).
ذلك يعني أن القرار الأخير يكاد يقول إن تجارة البالة مسموحة. والسبب: إنها ألبسة الفقراء. وطبعاً قرار منع استيراد البالة صادر عن وزارة الاقتصاد التي تثابر منذ عقود على تذكير “الجهات المختصة” بذلك الأمر كلما ضغطت غرفة الصناعة بالحجج المكررة ذاتها: حماية الصناعة المحلية. وتكون النتيجة: حملات تستمر أياماً، ترافقها ضجة تطالب بحق الفقير في “البالة”، فتتراجع الحكومة عن حملاتها، فيما يبدو استجابة لذلك الضغط وتكريساً لذلك الحق المستحق: حق المواطن في الحصول على ألبسة بالية!.
قرار يلغي قراراً..
على صعيد التعامل الإداري يبدو لافتاً أن الوزير الغربي خاطب معاونه بكتاب رسمي، وطالبه “بتوضيح المبررات والأسباب” التي أدت إلى إصداره التعميم دون الرجوع إلى الوزير. (قرار، بهذا المستوى من الأهمية، يصدر عن وزارة دون أن يمر على الوزير!) وفي إجراء جعلنا نتذكر حادثة أخرى مشابهة، أصدرت الوزارة ذاتها، بالتوقيع ذاته، قراراً ينهي العمل بكتاب سابق، بعد يومين على إصداره. يومان .. مدة قد تبدو طويلة، إذا قورنت بذلك الكتاب الذي أصدره وزير الأعلام السابق محمد رامز ترجمان واضطر إلى التراجع عنه بعد نحو ساعتين.
مقالات ذات صلة:
_ قرار منع البالة يثير سخط الشارع السوري.. وللإعلاميين موقفهم أيضاً:
_ بالة عالرصيف.. وكاميرات متخفية لمحافظة دمشق.. من يحارب كساء الفقراء؟!
الإصلاحية | لأنو صار وقتا..
Post Views:
0