الاصلاحية | ثقافة |
هي مدارت ندور في فلكها.. هي أكثر من يوميات تفاصيلها قائمة على الاحتمالات.. صاغها الكاتب والشاعر السوري أوس أحمد أسعد على وقع المفارقات الحياتية السورية:
ـ 1 ـ
ـ كنتُ والصّبيّة الأنيقة نغزُّ السّير باتجاه مسكنها القريب. هي بأبّهةِ كعبهاِ العالي، وزمزمةِ عطرها الوثير. وأنا بملامحِ المتأمّل،ذي اللّحية المشتعلة شيباً وشّكاً وأسئلةً مالحةً. هي بأنوثتها الوافرة تتبغدَدُ، سافرة الملامح، متعاليةَ الجبين، كعادةٍ أصيلةٍ فُطِرتْ عليها فتياتُ وطني. وأنا بانتباهة الحريص على مباهج الأنوثة تُعلي شميمَ فتنتها إلى أقصى التّفّاح. حين مرّ بنا شخصان ملتحيان. ألقيا التّحيّةَ الإسلاميّة المعهودة فأجبتهما بأحسنِ منها، تيمّناً بوصيّة السّلف الصّالح، وسرعان ما أدركَتُ بأنّني لستُ المعنيَ بسلامهما الحار من استراقِ نظراتهما اللّصوصيّة نحو جسد الصبيّة اليافع التي سألتني بحياديّةٍ: هل تعرفهما؟ أجبتُ بالنّفي، ثمّ استدركَتُ ضاحكاً: نعم، أظنّ أنّني التقيتُهما في زمنٍ غابر، في كهفٍ ما من كهوف الجهاد. ثمّ لخّصَتُ لها قراءتي للمشهد متفقّهاً: أظنّهما حاولا ضربَ عصفورين بحجرٍ واحد. بالسّلام السّخيّ عليّ، مُنِحَا ثواباً سيضاف إلى حسناتهما، يوم الحشر، وبنظراتهما المواربة إليكِ، تخيّلا حوريّات الجنّة وكوثرها. فظنّا أنّهما كسبا الدّنيا والآخرة، وأنا أغبطهُما.
ـ 2 ـ
ـ مازلتُ أحتفظُ برنين وطراوة وراهنيّة عبارة صديقي الشاعر “عيسى عزيز إسماعيل” (لولا شويّة كرامة، كنّا بنكون محلكم). موجّهاً خطابه نحو جمهور المتسوّلين المزدهر هذه الأيّام. صديقي المعتكف كقصيدةٍ ماطرة تحت خيمة الأمل. يكافح تقلّبات وأعاصير حركات الإعراب والشّدّة. مواجهاً بشجاعةٍ فارس، خبائث مرضٍ لئيم، واثقاً من هزيمته بالضربة القاضية بعد عمليّتين في الرأس والرّئة والكثير من الجرعات الكيميائيّة والجلسات الشّعاعيّة. ما سمعته مؤخّراً منه يثلج الصّدر والقلب. تحيّةً لكَ صديقي، في شروقكَ الباهي من فجر السنديان.
ـ 3 ـ
ثمّة التباسات ستنتابك تجاه بعض التّحليلات السيّاسيّة، وهي تتزيّا غموضها الواضح، يا للتّناقض الجميل! . يقول أحدهم: خفّ هطولُ القذائف إلى حدّ التلاشي تقريباً. ويردفُ بكلمةٍ حاسمة: انتصرنا! فنفرحُ ونهلّلُ كالأطفال. ويقول آخر ممتحِنَاً ألمَنَا: هناك مفاوضات ومباغتات أثمرتْ عن إطلاق سراح البعض. خافياً عيونه عنّا، كي لا يُمسَكَ بجرم القلق. ويهتفُ مطلّعٌ أكثر من اللّزوم: “الكثير من الشّياطين تكمنُ في التّفاصيل، فنصدّقهُ على مضضٍ. واثقين بقول شّاعرنا، عادل محمود: “السّوري نعاسٌ، لا غفلة”. وخلفَ زجاجِ الكلام يقبعُ سوريّ غارق في تدخين الحياة وتدجينها مقتاتاً إشاراتِ استفهامه الألف. يدحرجُ صخرته إلى أعلى الجبل كـ”سيزيف”، لتهبط ثانية إلى قاع قلبه المظلم بكلّ خدع اللّغة وفخاخها اليانعة.
ـ 4ـ
في سوق “الحراميّة” قرب جسر الثورة. أنا لا أرتّب المفردات أبداً، فهي تجري ضمن سياقها الواقعي تماماً شارحةً توضّع الأمكنة الحقيقي. كان أحد الباعة “الشرفاء جدّاً” يصرخُ بوجه أحد الزبائن بمحاضرةٍ وطنيّة: لو كنتً تحبّ “عملةَ” بلدكَ، ما كنتَ أعطيتني إيّاها مشقوقة..أخس..ياعيب الشّوم، ما عاد في ضمير!.
ـ 5 ـ
صديقي الطيّار لم تجمعني به مقاعد الدّراسة ولا الطلعات الجويّة المشتركة، بل حكاية وطنٍ مثخنٍ بجراحه. أخبرني أنّ سبب مهاتفتهِ لي من عمق الصحراء أثناء الاستراحة كانت بسببِ قراءته لاسمي في الجريدة التي تلتفّ حول سندويشة الفلافل التي سيلتهمها. تتضمّن حواراً لي مع الشّاعر الرّاحل “عماد جنيدي” بعنوان: عماد جنيدي يطبع دواوينه على حجارة ضيعته”. يا لخجلي أمام عتبه اللّطيف حين رأيته. أنا الذي لم يردّ على مكالمته آنذاك، لسببٍ غبيٍّ هو أنّني أضع هاتفي غالباً، بوضعيّة الصّامت. ربّما، لكي أجد فرصة للقلق فيما بعد!. صدّقتُ فرحته برؤية اسم أحد معارفه البعيدين، في أشدّ اللّحظات كثافةً وكسراً للاحتمال والتوقّع، وصدّقتُ خيبتي النّاجمة عن عدم الرّد على مكالمته في لّحظة فارقة لا تتكرّر. وهذا ما استدعى إلى ذاكرتي مفارقة أخرى أشدّ وقعاً، سردها عليّ صديقي الشاعر “طلال سليم” فهو الآخر ضحيّة عادة “وضع الهاتف صامتاً” في السّاعة الخامسة بعد الظهر من كلّ يوم، حيث يرقدُ لساعة واحدة، ولسوء حظّه أنّ اتصالاً بغاية الأهميّة قدْ أتاه من “السّيد الرئيس” أثناء استقباله للمخطوفين، وكانت ابنته المخطوفة من ضمنهم!. وحين عرف الحقيقة منها يعد عودتها، ضرب أخماساً بأسداسٍ ولكن، هيهاااات.
-6-
يفترشون عشبَ الحدائق سريراً ويلتحفون السّماء غطاءً، تحت خمائل وارفة الظّلال، وحولهم تغرّد العصافير من كلّ حدبٍ وصوب. الشّمس تقبّل جباههم المعروقة كلّ شروق، وتلقي عليهم تحيّتها كلّ غروب، ثمّ لا يملّون من المطالبة بالمأوى الآمن والخبز و…ألا يخجلون!.
– 7-
ذاك الصّباح الضّبابي في شارع بغداد المكتظّ بكلّ صنوف السّيارات والتّوجّس، وأنا أمشي متعثّراً بأحلامي المشبوهة. أحلام مواطن من الدرجة صفر. هاجمتني فرحةٌ غامرةٌ حين نظرتُ إلى وجه صاحب الهتاف الطّافح بالدّفء والحيويّة، ينادي بصوتٍ رخيم ” قرّب يا حبّاب وخود حليب” من حليب بلادي. وحوله يضحك دلوا حليب بلون وجه الوطن.. ذاك الكائنُ الجميل في شارع بغداد.
ـ 8 ـ
بائع الفرّوج، بمريولته المتّسخة وأنفه المعقوف دليل مجد غابر أو دليل اندغام وجيع بمهنته، لا أعرف بالضّبط!. يجلس على كرسّيّه الخشبيٍّ خارج محلّه الصغير. نظراته الخرساء تتساقطُ حوله بلا معنى واضح، كشأن أغلب السوريين، بدا لي أشدَّ هلعاً وعجزاً من دجاجاته المسكينة وهي تنتظر ذبحاً غير رحيم. أقسمُ أنّني رأيته يتدلّى من سقف المشهد أشبه بفرّوجٍ منتوف، تنتظره في الأسفل مقلاة كبيرة فاغرة الفم، على أحرّ من الصّبر.
المصدر: جريدة البعث
Post Views:
0