لكن ذلك لم يمنع الحافظ من الاستجابة للقرار الحكومي، ومحاولة تقديم خبرته الطويلة لتطوير هذه الشركة وغيرها. وبحسب ما يذكر العميد السابق للمعهد الوطني للإدارة العامة، الدكتور عقبة الرضا، والذي كان أيضاً عضواً في ذلك المجلس، فإن «الحافظ كان يمارس مهامه في مجلس الإدارة بحسه الوطني العالي، بل ربما بحس عائلة الحافظ التي أسست الشركة لتقدم منتجاً للمواطن السوري بجودة عالية من ناحية، ولتؤمن فرص عمل لائقة لأبناء الوطن من ناحية ثانية، ولتعظيم الناتج المحلي الإجمالي من ناحية ثالثة». ويضيف الرضا في حديثه أنه عندما «بدأت الحرب على سوريا انتقل الحافظ وعائلته للإقامة في بيروت بعد تدمير منشأته في منطقة السبينة (ريف دمشق)، إلا أن شركة الحافظ حافظت على عمالها، وسددت رواتبهم كما لو كانوا على رأس عملهم (مثلما قامت به الدولة السورية). وبعد فترة علمت أن الحافظ أسس مشروعه في لبنان، ونقل إلى هناك مجموعة كبيرة ممن عملوا معه في سوريا».ربما يكون الحافظ، ومقارنة بغيره من الصناعيين والتجار الأوائل، محظوظاً لتمكنه من إبقاء اسم عائلته على لائحة العائلات المتصدرة للمشهد الاقتصادي السوري خلال العقود الخمسة الأخيرة، وهي العقود التي شهدت تحولات اقتصادية واجتماعية تسببت بإزاحة طبقة اجتماعية واسعة تباينت المواقف حيالها. هذه الطبقة عرفت بـ«البرجوازية». وبحسب ما يذكر الباحث الاقتصادي زكي محشي فإنه «لا يمكن القول إن الطبقة البرجوازية بالكامل كانت مستغلة لحقوق الآخرين، لكنها غالباً، لا سيما شريحة ملاك الأراضي والصناعيين الكبار، كانت تقف عائقاً أمام حصول العمال والفلاحين على حقوقهم لاعتبارات تتعلق بالمخاوف من تراجع الأرباح والسيطرة، وهذا ما شكل عائقاً أمام عملية تنمية تضمينية تأخذ في الاعتبار حقوق الجميع ودورهم، إضافة إلى العلاقة القوية قبل التأميم بين البرجوازية الغنية والسياسة مما أثر سلباً على استقلالية وسيادة البلاد».
“تسلّلت شريحة اجتماعية جديدة إلى الحياة العامة من نافذة اقتصاديات الحرب”
أولى التحولات العميقة كانت مرحلة التأميم عام 1963، والتي تعاملت مع جميع أصحاب رؤوس الأموال والملكيات على أنهم مستغلون ومتاجرون، من دون أدنى استثناء أو تمييز لما قدمه البعض من قيمة مضافة اقتصادياً واجتماعياً، لا بل أن الباحث محشي يعتبر في حديثه لـ«الأخبار» أن عمليات التأميم «وبخاصة تلك التي أجريت في منتصف الستينيات كانت متطرفة إلى أقصى الحدود (مثل الحد الأعلى لملكيات الأراضي الزراعية كان منخفضاً جداً) وأدت إلى ظلم كبير ليس على الملاك والصناعيين الكبار فقط، وإنما على البرجوازية الصغيرة والمتوسطة وعسكرت الاقتصاد وخلقت فئة إقصائية جديدة». ثم جاء التحوّل المرتبط بزيادة حجم الفساد وتغلغله اجتماعياً ومؤسساتياً نتيجة زيادة تدخل الدولة في الشأن الاقتصادي وتراخيها في محاسبة الفاسدين، وصولاً إلى التحوّل الثالث الأخطر والمتمثل في مرحلة الحرب الحالية، التي قلبت المجتمع رأساً على عقب.
وعقب كل تحوّل، كانت هناك طبقة «برجوازية» جديدة تتشكل على «أنقاض» الطبقة «البرجوازية العريقة». طبقة راكمت ثرواتها وأملاكها من تحالفها مع المسؤولين الفاسدين وأصحاب النفوذ، ومن استغلالها واستثمارها للظروف والأوضاع الاقتصادية الجديدة، فكان أن تسيّد المشهد الاقتصادي عائلات لم يسمع السوريون بحضورها الصناعي والتجاري من قبل.
النزوح الأول:
مع التحوّل الأول، فقدت كثير من العائلات «البرجوازية» أملاكها ومنشآتها ومعاملها، التي كان يعمل بها نحو 117 ألف عامل وفقاً لتقديرات بعض الباحثين، وتمكّن بعضها من الهرب إلى الخارج مع ما استطاعت حمله من أموال قدرت آنذاك بنحو 800 مليون ليرة. وهذا ما قاد لاحقاً، وإلى جانب أسباب أخرى، لغياب قسري للعديد من العائلات «البرجوازية» الوطنية، وانسحابها من الحياة الاقتصادية المحلية. وبحسب ما يذكر عضو جمعية العلوم الاقتصادية، الدكتور فؤاد اللحام، فقد «تباينت ردود فعل البرجوازية الوطنية تجاه إجراءات التأميم، فقسم منها خرج من البلاد مع ما أمكن من أمواله وتابع نشاطه التجاري أو أقام نشاطاً صناعياً في عدد من البلدان العربية المجاورة، مساهماً بذلك بإدخال النشاط الصناعي، وخصوصاً النسيج، إلى لبنان، الأردن، وصولاً إلى المغرب وغيرها. أما القسم الثاني فقد بقي في البلد، وتابع نشاطه الصناعي بعد فترة من خلال منشآت صغيرة الحجم متوزعة في أماكن عدة تجنباً للظهور في شكل واضح».
ولم يقف الأمر عند إجراء تأميم أملاك هذه الطبقة كما يشير عقبة الرضا، فهذه «الطبقة الاجتماعية الاقتصادية، التي دعيت بالبرجوازية لأسباب تتعلق بالنهج السياسي الذي ساد في بداية ستينيات القرن الماضي، تم وصفها بأنها معادية للتطور وتعمل على سلب لقمة عيش العامل، وغير ذلك من نعوت سلبية، فضلاً عن تعمية المجتمع عن الدور الذي لعبته البرجوازية السورية بعد الاستقلال مباشرة، وخير شاهد على ذلك هو الاحتفال الأخير بعيد العمال بتاريخ 1 أيار 2018 والذي تم في الشركة «الخماسية» في منطقة القابون، وهي الشركة التي جاءت تسميتها من أسماء العائلات الدمشقية الخمسة التي أسستها».
لكن، وكي لا نلقي باللائمة فقط على مرحلة التأميم، التي حاولت حكومات ما بعد العام 1970 قلب صفحتها والتخفيف من تأثيراتها السلبية وتعزيز إيجابياتها، فإن ما عجّل برصاصة الرحمة على حضور ومساهمة العائلات التجارية والصناعية المشهورة آنذاك، كان أيضاً شيوع الفساد منذ عقد الثمانينيات وإسهامه في إنتاج طبقة اجتماعية طفيلية تولّت قيادة النشاط الاقتصادي، وتحولّت تدريجاً إلى قوة ضغط لا يستهان بها مع دخول البلاد مرحلة الانفتاح واللبرالية الاقتصادية، وبقيت كذلك حتى مطلع العام 2011.
حيتان الحرب:
لا تبدو نتائج الحرب الحالية بأقل تأثير على ما تبقى من العائلات «البرجوازية» القديمة أو تلك التي دخلت عالم المال والأعمال خلال العقود الأربعة الماضية، فارضة نفسها بطريقة أو بأخرى على المشهد الاقتصادي السوري، إذ حصدت الحرب بدمارها وخرابها منشآت ومعامل خاصة كثيرة، متسببة بخروج أموال لا تزال تقديراتها إلى اليوم غير دقيقة، إنما حجمها يتجاوز وفق كل التوقعات مليارات الدولارات.
هنا أيضاً تسلّلت شريحة اجتماعية جديدة إلى الحياة العامة من نافذة اقتصاديات الحرب، مستفيدة من ظروف الأزمة، والعقوبات الاقتصادية، والفساد المستشري في مؤسسات الدولة والمجتمع لمراكمة ثروات وملكيات واسعة غير معروفة المصدر، وبات حجمها مع مرور الوقت بأرقام «خيالية».
الخطورة الناشئة عن هذه الطبقة الطفيلية الجديدة لا تتمثل فقط في حالة الإقصاء والتهميش المتعمدة لشريحة واسعة من الصناعيين والتجار عملوا لسنوات وعقود في السوق المحلية وكونوا خبرات هائلة إدارياً ومهنياً، وإنما كذلك في طبيعة الأنشطة الاقتصادية التي تمارسها تلك الطبقة، والتي يندرج معظمها في إطار السعي نحو الربح الطفيلي السريع، بأي طريقة وعلى حساب أي مبدأ، في حين أن حاجة البلاد تقتضي الاهتمام والتوجه أكثر نحو الاقتصاد الإنتاجي المولد لفرص العمل والسلع والقيمة المضافة.
وهذا ما يدفع بالعميد السابق للمعهد الوطني للإدارة العامة إلى التأكيد على أن سوريا اليوم «وفي ظل ضعف موارد الدولة لإعادة الإعمار، فهي بحاجة إلى فتح حوار مع ما سمي بالبرجوازية السورية للاستفادة من خبرتها، وطنيتها، لوضع، على الأقل، قانون التشاركية رقم 5 لعام 2016 موضع التطبيق، وذلك من خلال الأخذ برأيها وتدارك معوقات تطبيقه. أو لتدارك العثرات في قوانين أخرى تكبح دخول الاستثمارات إلى السوق المحلية، مثل قانون ضريبة الدخل رقم 24 لعام 2003 وتعديلاته وغيره من القوانين بهدف منح حوافز تشجيعية، أو إعادة النظر ببعض القرارات التي تنظم منح التراخيص الإدارية للمنشآت المدمرة لإعادة بناء قطاع الأعمال مجدداً». مع الإشارة إلى أن المطالبة الشعبية بتحييد أثرياء الحرب والاستفادة من خبرات قطاع الأعمال الوطني، لا تعني بأي حال تبيض كامل لـ«صفحة» الطبقة البرجوازية القائمة قبل العام 2011، فالعديد من أفرادها كانوا وما زالوا شركاء لحيتان الأزمة الحاليين.
في العام 2005، وعندما كانت البلاد تشق طريقها مسرعة نحو الانفتاح الاقتصادي، منحت الحكومة الصناعيين السوريين «القلم الأخضر» لإقرار ما يريدونه من تشريعات وإجراءات وقرارات، وهذا ما شجعهم على البحث في إمكانية المطالبة بمنح تعويضات لمتضرري مرحلة التأميم السابقة. والسؤال: لمن يمكن أن يُعطى القلم الأخضر في هذه المرحلة المصيرية؟ هل للجميع من دون تمييز كما تعامل التأميم في ستينيات القرن الماضي؟ وكيف يمكن للدولة السورية أن تتدخّل لدعم الطبقة «البرجوازية» الوطنية والحقيقية؟
دور الصحافة: