الاصلاحية |
بعد تحضيرات ضخمة لأحد المؤتمرات الهندسية المختصة بالاستفادة من الأنقاض وتدويرها في إحدى الجامعات، وبعد إلقاء محاضرات تجاوز عددها 80 محاضرة كلفت ملايين الليرات السورية، سُئل أحد الأساتذة الجامعيين المختصين عن النتائج العلمية لهذا المؤتمر، فما كان منه إلا أن قدم إجابة تبتعد عن كل ما هو علمي.
أشار الأستاذ الجامعي بكل ثقة إلى أن أحد النتائج المتوقعة من المؤتمر أنه سيتم استخلاص الحديد من الأنقاض والدمار، وبذلك يصبح لدينا مجموعتين: الأولى هي حديد والثانية هي ركام، ولأننا عادة ما نكتفي بالعناوين العريضة تاركين جوهر الموضوع يرحل مع الأنقاض، لا بد من القول إن عبارة «تدوير الأنقاض» أخذت أكثر مما تستحق كلاميا، وحتى اليوم لم تجد ترجمةً لها على أرض الواقع وفي القرارات الحكومية.
مشروع بحثي جاهز
ربما لم تسنح الفرصة لظهور مشروع بحثي متكامل، خاصة وأن الساحة الإعلامية مليئة بفقاعات الأنقاض والإعمار، وها هي الأستاذة في كلية الهندسة المدنية في جامعة حلب والمشرفة على المشروع الوطني لتدوير الأنقاض، فاطمة الصالح تقول لـ «الأيام»: إن الهدف الأساسي من المشروع البحثي الذي تم إنجازه بمشاركة مجموعة من طلاب الدراسات العليا هو الاستفادة من الأنقاض بأكبر قدر ممكن، وبطريقة اقتصادية بحيث يمكن الاستغناء عن نقلها إلى أماكن بعيدة، بشكل تجري فيه عملية الطحن في المكان نفسه مع الاستفادة المباشرة بالتصنيع لعدة أنواع.
وأشارت الصالح إلى أنه «تم تصنيع عدة مواد سواء خلطات بلوك أو بيتون أو إكساء، بالإضافة إلى تدعيم التربة الضعيفة، وفي بعض الحالات تم العمل على استخدام إضافات جديدة بحيث يتم الحصول على منتج تتحقق فيه المواصفات النظامية، وبعد ذلك من خلال إضافات معينة تتحقق مواصفات إضافية، فعلى سبيل المثال لم يتم الاكتفاء بتصنيع البلوك بل تم العمل على تحسين موصفاته بحيث يصبح عازلا للحرارة بشكل يتم فيه استغلال نفايات البلاستيك والنسيج، بالإضافة إلى تصنيع حجر صناعي». ولفتت الصالح إلى أن المشروع مكون من عدد من المشاريع وحتى لو انتهت مدته الزمنية سيتم أخذ مشروع آخر مكمل لهذا المشروع.
مراحل العمل بدأت في حلب
وتقول الصالح إن العمل في المشروع تم على عدة مراحل: في المرحلة الأولى تم إجراء دراسة بحثية كي يتم التعرف على أبحاث العالم، وإلى أين توصلوا في هذا الشأن، وتم تجميع أكثر من 400 مقالة أجنبية تم تلخيصها كي يتم الانطلاق منها والتأسيس عليها، والجزء الثاني كان محاولة للتعرف على طبيعة الأنقاض منها ما هو من البيتون والآخر من البلوك، وبعد ذلك تمت زيارة أحياء المدينة المتضررة وتم أخذ مجموعة كبيرة من العينات في كل حي، وتم تصنيف المواد الموجودة فيها سواء أخشاب أو معادن أو بلوك مع إيجاد النسب الأعظمية.
كما تم إجراء دراسة ميدانية لدراسة حالة مدينة حلب من خلال تنفيذ مجموعة من المسارات والنقاط ليتم تحديد نسب الأضرار، وبعد الانتهاء من الجولات الميدانية تم البدء برسم خريطة للأنقاض تعد أساسية لمرحلة إعادة الإعمار، بالإضافة إلى تقديم رؤية خاصة لمحافظة حلب تحت عنوان كيفية التعامل مع الأنقاض في مرحلة إعادة الإعمار.
وقالت الصالح: «بسبب أن حجم الأنقاض في محافظة حلب كان كبيرا جدا اضطررنا للبدء بالمشروع قبل أن تبدأ مرحلة الإعمار في ظل وجود حاجة ماسة إلى البحص والرمل والمواد الطبيعية الأخرى».
مصالح ملوثة
على ما يبدو فإن الواقع الهندسي ما زال ملوثا بعدد لا بأس به من المهندسين، الذين يستلمون مراكز قيادية ومناصب حساسة، ولا يريدون أن يقدموا أي فائدة مجتمعية. وقد أثبت ذلك عدد من الباحثين في مجال الأنقاض عندما أشاروا إلى وجود عدد كبير من المهندسين لم يقوموا بأي تجربة في هذا الإطار ومع ذلك يقولون إنهم غير مقتنعين بالتجربة.
ورأى أولئك الباحثون أن من يعمل في ترحيل الأنقاض ليس من صالحه أن يتم تدويرها، ولذلك تتم محاربة مشاريع التدوير بالوسائل كافة. وهنا تقول الصالح: «نأسف أن نكون في حالة دفاع عن المشروع مع أن الشخص الذي لا يعمل هو الذي من المفترض أن يدافع عن نفسه وهذا هو وجعنا».
تجارة الترحيل
على الرغم من وجود حفر محددة كي يتم وضع الأنقاض المرحّلة فيها، إلا أن السيارات القادمة تكون على عجلة ولا هدف لها إلا ترحيل أكبر قدر ممكن كي تتحقق الاستفادة المادية القصوى، فتقوم برمي هذه الأنقاض خارج المطامر المخصصة لها وبذلك تحتاج المنطقة إلى ملايين الليرات كي تستعيد نظافتها، وفي هذه الحالة تكون الأنقاض قد انتقلت من منطقة إلى أخرى فقط.
وأشارت مصادر مطلعة في محافظة حلب إلى أنه وفي اليوم الذي زارت فيه الوفود الوزارية المحافظة بدأ العمل بكل جدية لإظهار أن فرز الأنقاض يتم بكل جدية، إلا أنه بعد رحيل الوفد بدقائق عاد الأمر إلى ماكان عيله في السابق، وحاليا توجد الأنقاض مع نفايات البلدية، وتحولت إلى مواد غير مفيدة حتى بالردم
وأشارت تلك المصادر إلى أن السيارات التي تقوم بالترحيل فور دخولها إلى حرم المطمر تضع المواد، وبذلك يُملأ الحرم بكامله بالمواد المرحلة وتبقى حفرة الطمر فارغة، بالإضافة إلى أنه يتم تحصيل مبالغ هائلة عن كل نقلة، وعادة ما يتم تقدير كل مترين مكعبين ب 3 أمتار مكعبة خاصة أن المواد عند تحميلها إلى السيارات يزداد حجمها.
الدكتور عبد الحكيم بنود أحد المشرفين على المشروع في جامعة حلب أشار إلى أن الموضوع تحول إلى «رزقة» لدى البعض، ولذلك لم يتم الفرز بشكل سليم، وحاليا يتم خلط النفايات المركزية العضوية مع الأنقاض، والسبب في ذلك أن المتعهدين يريدون الانتهاء من المشروع بأقصر مدة زمنية ولذلك لا تعنيهم طريقة التخلص من الأنقاض.
مؤسسات حكومية غير متعاونة
على الرغم من توقيع عدد من الاتفاقيات في مجال التعاون بين الجامعات الحكومية والجهات العامة، إلا أن تلك الاتفاقيات لا تستخدم إلا في حالة الدفاع عن النفس، فيشهرها أصحاب القرار في أوجه المستفسرين عن سبل التعاون، وبذلك توضع الأبحاث الجامعية على الرف وتسرح الجهات العامة وتمرح مع المتعهدين. وقد أشار عدد من الأساتذة العاملين في مشروع تدوير الأنقاض في جامعة حلب، إلى أنه وحتى اليوم لم يتم إيجاد أي تعاون مع أي جهة حكومية. وعدّ بعض الأساتذة أن عدم التعاون ليس وليد اليوم بل دائما كان يوجد عدد من الأعمال البحثية في الجامعات ولم تلقَ التشجيع الكافي.
في دول العالم المتقدم
أشار الأستاذ في كلية الهندسة المدنية في جامعة دمشق ماجد أسعد، إلى أنه من أهم أهداف عملية تدوير الأنقاض هو تحقيق التنمية المستدامة بشكل يتم فيه حماية المقالع والبيئة خاصة، وأنه يوجد عدد من الدول تخشى على مقالعها وصخورها وثرواتها الطبيعية. وأشار أسعد إلى أنه في فرنسا مثلا أي عملية تدوير تبعد عن الموقع أكثر من 20 كيلومترا تعد غير مفيدة، ولذلك يجب أن تكون عملية التدوير قريبة من الموقع، خاصة وأن الترحيل إلى مسافات بعيدة تخرب البيئة نتيجة الغبار المتطاير بالإضافة إلى تخريب الطرقات نتيجة الحمولات المحورية الزائدة، وبذلك نخرب من جهة ونحمي من جهة أخرى.
اشتراطات ورقابة
يقول أسعد إن 80% من أبحاث طلاب الدراسات العليا اليوم تتركز حول إعادة تدوير الأنقاض، بحيث يمكن الاستفادة من إعادة التدوير على التوازي مع المخططات التنظيمة الجديدة، بشرط وجود سيطرة فنية ورقابة على الجودة لأن نواتج الأنقاض من الممكن أن تكون أضعف من المواد غير المدورة ويوجد عدة طرق ميكانيكية يمكن من خلالها تقليص المسافة بين المواد المدورة وغير المدروة».
استثمارات مشجعة
رأى الدكتور أسعد أن «اتخاذ قرار بالترحيل يعكس فكرة التدوير ولذلك يجب وجود قوانين تشجع الشركات على استثمار الأنقاض، بشكل يتم فيه الحصول على ميزات إضافية عند استخدام مواد مدورة». و رأى عدد من الأساتذة الجامعيين أنه بدلا من استجرار المواد من المقالع، يجب استغلال الأنقاض وبشكل يتم فيه لحظ المناطق التي أصيبت بالتخريب ضمن رقعة جغرافية محددة.
متعهدون مظلومون
من جهته، يقول أحد المتعهدين المشاركين بعملية ترحيل الأنقاض من مناطق ريف دمشق رياض غانم إن «عملية الترحيل تتم عبر عقود نظامية وبمناقصات، بشكل يتم فيه ترحيل أنقاض الغوطة إلى النشابية، وأنقاض دوما والقابون وحرستا إلى تل كردي، لتقوم الدولة بعد ذلك بفرز الأنقاض في المكبات». وأشار غانم إلى أن «الدولة أجحفت بحق المقاول، خاصة وأنهم يتقاضون أجورا أقل بكثير من الأجور المستحقة».
طرق مثلى غائبة
مدير البحث العلمي في وزارة الأشغال العامة والإسكان أمير منير قال إنه «يوجد طريقتان للتخلص من الأنقاض، الأولى مختصرة ولكنها غير مجدية خاصة على المدى الطويل، والثانية تأخذ وقتا أطول ولكنها الأكثر جدوى». وأشار منير إلى أن الطريقة الأفضل هي أن تتم المعالجة باستخدام كسارات متنقلة بعد تقسيم المناطق بحسب حجم الأنقاض المتجمعة بحيث تنصب هذه الكسارات ثم تتم عملية الطحن.
و أكد منير أنه «حتى ولو استغرق الأمر فترة أطول إلا أنه من الأفضل أن تتم عملية التدوير في المكان، ومن الممكن بعدها استخدام نتائج التدوير في أعمال إنشائية ثانوية كالطرق والساحات وأسوار المدارس». وشدد على أن أي عملية ترحيل ستكون «مكلفة ومؤقتة، وحتى ولو كانت الطريقة المثلى مكلفة نسبيا إلا أنها من أفضل الطرق، لأنها الأقل كلفة على المدى الطويل خاصة على الصعيد البيئي».
باختصار: إذا استمرت كلمة أنقاض بدغدغة مشاعر الجهات العامة بغض النظر عن كيفية التعامل معها، فلن نحصل من أنقاضنا التي نراهن عليها في إعادة الإعمار، سوى على الكثير من الغبار المتطاير هنا وهناك
لجين سليمان | الأيام
Post Views:
0