الاصلاحية | منصة التحكيم |
ترأس منذ فترة رئيس مجلس الوزراء اجتماعاً لبحث واقع المؤسستين الرقابيتين في سورية، وذلك في إطار تهيئة الظروف لوضع إعلان مجلس الوزراء الخاص بمحاربة الفساد موضع التنفيذ.
زياد غصن | في الاجتماع المذكور سجل رئيس مجلس الوزراء الكثير من الملاحظات الموضوعية، بعضها صب في صالح عمل المؤسستين الرقابيتين، وبعضها الأخر لم يكن في صالح أياً من المؤسستين، الأمر الذي يعني حاجة المؤسستين كباقي مؤسسات الدولة إلى الإصلاح، ومعالجة أوجه الخلل المتراكمة منذ سنوات سابقة، سواء كان خللا داخلياً أو خللا ناجما عن العلاقة مع مؤسسات الدولة الأخرى.
إصلاح المؤسستين الرقابتين شكل محوراً هاماً للنقاشات الحكومية الإصلاحية، التي نشطت مع بداية الأزمة.
وخرجت اللجنة المشكلة آنذاك بجملة اقتراحات، كان أبرزها تشكيل هيئة عليا لمكافحة الفساد تتكون من دمج المؤسستين الرقابتين الحاليتين، لكن ولأسباب عديدة لم تجد المقترحات طريقها للتنفيذ..!!.
إن أهم أوجه الإصلاح الرقابي، بالغة الضرورة، تتمثل في عمل المفتشين وسلوك بعضهم، الفاقد للموضوعية وللنزاهة المهنية، وهناك أمثلة عديدة على ذلك…
وقلنا أولوية عاجلة لأن مكافحة الفساد لا يمكن أن تكون موضوعية ومهنية دون كادر تفتيشي، خبير، مهني، وأخلاقي..
لكن، وكما أن حماية الصناعة الوطنية لعقود طويلة أفرزت سلعا وبضائع محلية رديئة، فإن الحصانة المعطاة للمفتشين تسببت بانحرافات سلوكية ومهنية عديدة لدى البعض.. وأكرر العبارة للتأكيد “لدى البعض”..
هنا نعرض لجانب مهم لم يتم التطرق إليه نهائياً في طروحات الإصلاح، ونعتقد أنه طرح يستحق من السيد رئيس مجلس الوزراء المتابعة “وتقليب” مبرراته وتأثيراته..
النقطة الهامة المراد إثارتها هنا للنقاش تتعلق بأسباب ما يمكن تسميته بـ”الحصانة القضائية” الممنوحة للمفتشين، والتي تجعلهم بمنأى عن أي مساءلة قضائية تتعلق بأعمالهم التفتيشية، في حين أنه باستطاعة أي مواطن اللجوء إلى القضاء في مواجهة أي مسؤول، بدءاً من رئيس مجلس الوزراء إلى أصغر موظف في الدولة.. وحتى القضاة أنفسهم يخضعون عند اللزوم إلى المحاكمة وفق إجراءات قانونية محددة.
هذه الحصانة القضائية تخالف مبدأ دستورياً معروفاً يعطي المواطن السوري الحق في التقاضي، إذ وفق ما جاء في الفقرة 3 من المادة 52 فإن “حق التقاضي وسلوك سبل الطعن والمراجعة والدفاع أمام القضاء مصون بالقانون، وتكفل الدولة المساعدة القضائية لغير القادرين وفقاً للقانون”.
والقضاء أكد بأحكام قطعية كثيرة خطأ تقارير تفتيشية في قطاعات اقتصادية وخدمية مختلفة أو لنقل برأ ساحة كثيرين تم اتهامهم بتهم شتى، دون أن يؤدي ذلك إلى مساءلة المفتش أو السماح للموظف المتضرر باللجوء إلى القضاء ليقتص من ذلك المفتش، الذي ظلمه مرتين، مرة أمام مؤسسته ومرة أخرى أمام عائلته ومجتمعه.. وكلنا يعلم أن هناك حالات محددة جرى فيها استهداف ممنهج لكفاءات وطنية بغية تطفيشها أو لتحقيق مصالح خاصة، وللأسف بتواطؤ مباشر من بعض المفتشين…
هذه الحصانة أيضاً تخالف مبدأ إدارياً يحكم العمل الإداري في كل مؤسسات العالم، ويقوم هذا المبدأ على ما يمكن تسميته بـ” السلطة المقيدة بالقانون”، فعمل الموظف غير المقيد بسلطة غالباً ما يشهد انحرافات وأخطاء مقصودة وغير مقصودة.. لا بل ويمكن أن تتكرر أيضاً.
وعليه فالمفتش الذي يأخذ دور المحقق والقاضي معاً، وأحيانا دور رجل الأمن، ويكون محمياً من أي مساءلة قضائية، فمن الطبيعي أن يخطئ، أو أن يتطرف في أحكامه، أو حتى أن يفسد، وهناك أمثلة عديدة يمكن أن نوردها للدلالة على كل ما ذكر.
إذاً… ما الحل؟
باختصار.. إذا كانت النية جادة فعلاً لتطوير أداء المؤسستين الرقابيتين، فإنه يتوجب، وإلى جانب استمرار ضمانة استقلالية هاتين المؤسستين والاهتمام بالوضع المعيشي والتأهيلي للعاملين فيهما، اختيار واحداً مما يلي في معالجة مسألة “الحصانة” القضائية:
-إذا كان الرأي أن يستمر العمل بمبدأ الحصانة القضائية لمفتشي الجهاز المركزي للرقابة المالية والهيئة المركزية للرقابة والتفتيش، فهذا يتطلب، واحتراماً للدستور الضامن لحقوق جميع المواطنين، أن يتم اعتبار جميع الآراء والنتائج والمقترحات الصادرة عن المفتشين ومؤسساتهم ذات طبيعة استشارية غير ملزمة، تتولى رئاسة مجلس الوزراء وعبر الإدارات المؤسساتية التحقق منها، ومناقشة تفاصيلها بعيداً عن إشاعة أجواء الرعب والخوف وتطفيش الكوادر والكفاءات الوطنية..
-أما إذا كان الرأي برفض مبدأ استشارية ما تخرج به التقارير التفتيشية وبقاء الحال على ما هو عليه، فإن ذلك، وانطلاقا من المبدأ الدستوري السابق، يفرض ضرورة رفع الحصانة القضائية عن عمل المفتشين والسماح لأي متضرر باللجوء إلى القضاء للحصول على حقه، وهو أمر قد يحد كثيراً من الأحكام والمواقف المسبقة لشريحة من المفتشين، والأهم تغيير طريقة عمل شريحة من المفتشين التي لا تقل نتائجها الكارثية عن نتائج الفساد…إلا إذا كان هناك من لا يثق بالقضاء!!.
قد يرد البعض على ما سبق بالقول إن لدى المؤسستين الرقابيتين إجراءات داخلية خاصة لمحاسبة المفتشين “المخطئين” تصل إلى حد نقل المفتش إلى مؤسسة عامة أخرى، ونزع صفة “التفتيش” عنه..
الإجابة على ذلك أن هذه الإجراءات غالباً تبقى رهن إدارة المؤسسة الرقابية.. بمعنى آخر ليس كل إدارة لديها الجرأة والموضوعية لتقول عن “زيتها أنه عكر”…
أعرف أن ما سبق قد يزعج البعض، لكن حان الوقت لحسم كثير من الملفات العالقة والمعيقة للعملية الإصلاحية، فإما أن نثق بمؤسساتنا وندعمها بالرقابة الوقائية المساعدة، وإما أننا لا نثق بها ونستمر باعتبار كل ما تقوم به ناتجاً عن سوء نية وفساد.. وغير ذلك.
هامش1: كما هي العادة علينا أن ننوه إلى وجود عدد غير قليل من المفتشين يتسمون بالمهنية والأخلاقية العالية، وكان لهم مساهمة حقيقية في الكشف عن قضايا فساد كبرى، وفي مساعدة المؤسسات العامة على تصويب عملها… ومثل هؤلاء هو ما يجعل الدعوات تنصب على إصلاح المؤسستين الرقابيتين لا على استبدالهما بجهاز رقابي جديد.
هامش2: هناك أمثلة كثيرة، لو جرى اسقاط المواقف المسبقة التي ينطلق منها عمل بعض المفتشين عليها لكان العديد من هؤلاء مذنبين أكثر من الفاسدين أنفسهم.
سيرياستيبس
Post Views:
0