الاصلاحية |
يعود حي «المزة 86» إلى الواجهة مجدداً، بوصفه أحد أبرز مناطق السكن العشوائي في طوق العاصمة التي تعاني من شح الخدمات الحكومية، عبر تصريحات طاولته وجيرانه من «أحزمة الفقر» الأُخرى التي تسوّر دمشق، تتحدث عن خطط تنظيمية مقبلة
مرح الماشي | درجات اسمنتية بين أزقة تختلط فيها روائح الرطوبة والطبخ المنزلي مع روائح مجاري الصرف الصحي. هذا ما تتخطاه رغد، ذات الأعوام التسعة، في رحلتها اليومية إلى المدرسة. مياه مجهولة المصدر «تكرج» تحت قدميها في الأيام المشمسة، رغم محاولاتها تحاشي ما قد يلوّث حذاءها المتواضع المحلي الصنع. تلامس أصابعها الصغيرة جدراناً بلا كسوة، تخترقها تمديدات بلاستيكية مخرّبة ترش المياه القذرة على المارة، بينما القمامة تتناثر في كل مكان. تخشى والدة رغد، تجول الصغيرة وحيدة بين الأزقة الضيقة، لكن لا حل أمام العائلة في ظل وجود طفلين آخرين أحدهما رضيع والآخر في سنّ الروضة. ربّ الأسرة موظف في مؤسسة لها حساسيتها العلمية في البلاد، غير أن راتبه لا يكفي لإعالة الأسرة ودفع مستلزمات الحياة؛ «نعيش كل يوم بيومو»، تقول الزوجة. اشترى زوجها منزله الصغير في الحي العشوائي قبل 15 عاماً، بمبلغ 500 ألف ليرة (ما يعادل 10 آلاف دولار في ذلك الحين، و1000 دولار حالياً).
لا تنفكّ المرأة تهدهد لصغيرها الذي ولد نتيجة ما سمّته «غلطة»، إذ إن إنجاب طفل جديد إلى هذا العالم المتوحش ليس أمراً صحيحاً، وفق تعبير زوجها. تنقل ناظريها بين ساعة الحائط وسرير طفلها، وبين الزقاق المؤدي إلى المنزل، في موعد انصراف تلاميذ المدارس. «حتى إقامتنا في الـ86 يستكثرونها علينا»، تقول المرأة مبتسمة، في إشارة إلى إقامتها في حي «المزة 86»، القسم الشعبي من منطقة المزة الكبرى، التي عُرفت بكونها مركز سكن دمشقيي «خارج السور». ضاعت الديموغرافيا الطبقية الدمشقية بفعل الحرب وجور الحكومات المتعاقبة منذ ما قبل الحرب، إضافة إلى حاجة المدن الكبرى إلى اليد العاملة من أبناء الريف. وهكذا صارت دمشق ما هي عليه اليوم… مزنّرة بمناطق سكن عشوائي أقيمت على عجل، صار لقبها «أحزمة الفقر»، تؤوي من مثّلوا خزان الحرب المنحسرة ووقودها.
يعدّ حي «المزة 86» واحداً من عشرات أحياء السكن العشوائي المحيطة بالعاصمة. ويقارب عدد سكانه مليون نسمة، بينهم موظفون وجنود ونازحون وفنانون ومثقفون. تعرّض الحي لاستهداف مباشر خلال سنوات الحرب، عبر قذائف الهاون والتفجيرات، إضافة إلى استشهاد آلاف من أبنائه في معارك على امتداد مساحة البلاد. ونال حصته من تشويه واتهامات من قبل وسائل إعلام معارضة، عبر تصويره «مستعمرة طائفية زُرعت في خاصرة دمشق» لتغيير بنيتها السكانية. غير أن لجوء نازحين من مختلف المناطق إلى الحي بفعل إيجارات منازله الزهيدة مقارنة ببقية مناطق دمشق المنظّمة، يكفي لدحض هذه الاتهامات. حارات يقطنها العديد ممن فقدوا منازلهم في الغوطة ودوما ومدن أُخرى كحمص ودرعا، تشي بتفاهم ضمني يجمع فقراء البلاد، حين لجؤوا إلى فقراء مثلهم وتقاسموا الخدمات الحكومية الشحيحة، غير معنيين بما توصف به المنطقة وسكانها. وهُنا لا بد من استحضار صور لملتحين من نوع آخر، بدؤوا بالظهور كعناصر في اللجان الشعبية للدفاع عن الحي من تهديدات أطلقت على جميع الشاشات في منتصف عام 2011. السمعة السيّئة التي ما زالت تلاحق بعضهم، لا تعبّر عن حقيقة الأمر حالياً. فاللحى اليوم يتخللها الشيب، وتغطي وجوهاً أثقلتها الحرب ومظاهر البؤس. لحى موظفين غير مبالين بمظهرهم وآباء لا يملكون ما يسدّ رمق أطفالهم، كسائر الفقراء السوريين، لتصبح كناية عن الركض وراء مستلزمات العيش بدلاً من ترف التفرغ لشراء شفرة. قد تبدو في الفكرة مبالغة ما، غير أن الواقع في مثل هذه الأحياء قد أضحى مبالغاً فيه أيضاً.
تصريحات حكومية جديدة ترافقت مع شائعات بُثّت على مواقع التواصل الاجتماعية أفضت إلى خلق هواجس لدى سكان الحي. وسادت أوساطه مخاوف من اعتبار حيّهم الفقير المهمل أنقاضاً ينبغي إزالتها، من غير تعويض لأهله. وعزّز هذه المخاوف كلام منسوب إلى عضو المكتب التنفيذي في محافظة دمشق فيصل سرور، عن هدر نصف ميزانية دمشق على المناطق العشوائية التي لا تدفع شيئاً، بل تستجر بشكل غير مشروع خدمات الطاقة من الدولة، عل حدّ قوله. وبدا كما لو أن الحرب أعطت المسؤولين ذريعة للتخطيط بما يناسب بلداً آخر وسكاناً لا يشبهون سكان العشوائيات. سرور خرج عبر وسائل الإعلام المحلية لتوضيح حقيقة الأمر، معلناً البدء بوضع مخططات لمناطق برزة وجوبر والقابون، باعتبارها الأكثر تضرراً في دمشق، بانتظار إنجازها مطلع العام المقبل. وشرح أن وضع مخطط لحي «المزة 86» وحي الورود قد لا يتم قبل عام 2022، إذ إن مخططات الزاهرة والتضامن ودف الشوك ستشغل المحافظة لعامي 2019 و2020، فيما لن يبدأ استملاك المعضمية ومعربا قبل عام 2023، بعد مخططات سفح قاسيون. وأكد سرور تأمين سكن لجميع المواطنين من خلال التعويض بالأجور أو السكن البديل.
الباحث في الاقتصاد العقاري عمار يوسف لفت في حديث إلى «الأخبار» إلى أنه لا طائل من فتح ملف مناطق السكن العشوائي في الوقت الحالي، إلى حين إيجاد حلول لإعادة إعمار المناطق المدمرة. وأكد يوسف ضرورة الاستمرار في تقديم الخدمات إلى تلك المناطق رغم الخسائر والاستنزاف للموارد الحكومية، بوصفه أمراً اضطرارياً في غياب البدائل. وإذ يتفق يوسف مع الطرح القائم على إجراء دراسات لإزالة مناطق السكن العشوائي بعد تأمين السكن البديل النظامي للسكان بمساحة وسعر متكافئين مع السكن الأصل، فقد طالبَ بالكف عن اللعب على مشاعر الناس بتصريحات غير مسؤولة كسيف مُصلت على رقابهم.
ومن الجدير بالذكر أن تنظيم مناطق السكن العشوائي في سوريا يتم وفق المرسوم الرقم 40 الصادر في عام 2012، والذي يقضي بإزالة الأبنية المخالفة مهما كان نوعها، وتسوية المخالفات القائمة قبل صدوره، بعد تأهيلها وتسوية أوضاع الملكيات القائمة عليها وإدخالها في المخطط التنظيمي، مع تحديد العقوبات والغرامات، بينما صدر في عام 2012 أيضاً المرسوم الرقم 66 الذي ينصّ على إحداث مناطق تنظيمية تسهم في معالجة بعض أهم المناطق العشوائية في دمشق، كبساتين الرازي وداريا والقدم.
المصدر: جريدة الاخبار اللبنانية
Post Views:
0