الاصلاحية |
تحقيق ميساء العلي:
آخر صورة في مخيلتها كانت صورة لعبتها، التي صنعتها من بقايا القماش قبل أن تنتقل إلى مكان جديد مختلف تماما عن المكان، الذي ولدت به، وهي بنت الأربعة عشر ربيعاً لم يجول في ذهنها في تلك اللحظة سوى أنها ستصبح في بيت مستقل لها غرفتها الخاصة وأغراضها والمزيد من الملابس الجديدة. هكذا تروي “سعاد: قصة زواجها وتضيف: ” كنت أريد أن أكمل تعليمي، إلا أن والدي فرض علي الزواج برجل يكبرني بـ 15 سنة، لم أعلم بأنني سأكون أمام مسؤولية كبيرة، فقد حملت طفلي الأول بسن الـ 15 سنة، وتعرضت للإجهاض، ومن ثم حملت مرة أخرى وتعرضت أيضا للإجهاض، وكذلك الأمر في الحمل الثالث والرابع وبات جسدي لا يتحمل، ومن ثم حملت وأنجبت طفلا وأنا في عمر الـ 17 سنة.
“سعاد” ابنة مدينة حرستا في ريف دمشق لم تعش طفولتها كالكثير من بنات جيلها، ولذلك فقد وجدت صعوبة في التعامل مع طفلها، حيث كانت تبكي حينما يبكي، والأنكى أنه لم يكن هناك من يساعدها على حمل تلك المسؤولية الكبيرة.
أما زواج “أمل” البالغة من العمر 15 عاما، وهي أيضا من سكان حرستا، جاء بفعل ضغوط ظروف الحرب، فهي “آخر العنقود” في أسرتها، التي كانت تخاف عليها من الاغتصاب، خاصة وأن فتيات كثيرات تعرضن لحالات اغتصاب في تلك المنطقة، التي خضعت لسيطرة تنظيمات مسلحة.
تروي “أمل: قصتها بحرقة شديدة، كونها عاشت بعيدة عن أهلها مع زوج كان يضربها على الدوام. أنجبت منه 3 أولاد، وعند فتح طريق الغوطة هربت من زوجها والتحقت بإحدى الجمعيات، ولتبدأ طموحها بالتحصيل العلمي، حيث حصلت على شهادة التعليم الإعدادي، وهي مصممة على إكمال دراستها حتى تحصل على شهادة الثانوية العامة، ومن ثم التسجيل في قسم “علم النفس” بالجامعة. أما لماذا هذا الفرع ؟ تجيب بوضوح: “أريد أن أساعد الفتيات وأرشدهن كي لا يتعرضن لما تعرضت له “.
“أمل ” التي تبلغ من العمر حاليا 24 عاما، تنصح كل فتاة ألا تتزوج قبل إتمام تعليمها لتمكين نفسها من الناحية الاقتصادية.
“سلمى” لها قصة مشابهة مع مزيد من الوجع. تزوجت بعمر الـ 12 سنة مع بداية الحرب، أجهضت أكثر من مرة فكانت النتيجة إصابتها بكتل سرطانية. هي اليوم بعمر الـ 24 سنة لديها بنت وصبي، تقول : “أنا نادمة على الزواج، لكن الأمر لم يكن بيدي أنا الطفلة آنذاك، فقد أراد والدي أن يتخلص من لقمة عيشي فقام بتزويجي من رجل يكبرني بسبع سنوات”.
اليوم تقاوم سلمى لتعيش، وتتغلب على الظروف الصحية والاقتصادية بعد طلاقها من زوجها وحرمانها من أولادها، إلا أن ما يقويها وجود ابنتها المصممة على التعلم وعدم الزواج حتى تنهي دراستها، و”إذا ما فكرت بالزواج، فإن والدتها ستكون ضمن “الجهاز” الذي ستأخذه لبيت زوجها” تقول سلمى.
*عرائس أم يحملن عرائس
هو عنوان الحملة التي أقامتها جمعية “موازييك” الخيرية في حرستا ضد زواج القاصرات في حرستا ومسرابا، منسقة الحملة “ميادة حميدان” قالت: بدأنا هذه الحملة بهدف التوعية الأسرية للحد من زواج الفتيات القاصرات والآثار المترتبة على الفتاة والأطفال جراء هذا النوع من الزواج. وأضافت : الحملة ستستمر لتغطي كل مناطق الغوطة من خلال عقد جلسات توعوية وصحية، فالمركز التعليمي المتواجد في الجمعية يستقبل طلابا وطالبات متسربين من المدارس، وخاصة الفتيات القاصرات اللواتي تزوجن وتصل نسبتهن إلى 70 % , مشيرة إلى تزايد أعداد المنتسبين للمركز التعليمي، حيث قمنا باستبيانات مع أمهات الفتيات القاصرات حول أسباب تزويج بناتهن، والتي أرجعتها إلى عدة عوامل منها الظروف الاقتصادية والموروث المجتمعي والديني في المنطقة.
تقول “حميدان” إحدى الحالات، التي جاءت للمركز طفلة بعمر الـ 9 سنوات من دوما، تم عقد كتابها وسيتم الانتظار 4 سنوات لتزويجها، مضيفة أن إحدى الأمهات لا تقبل أن تزوج ابنها إلا لفتاة عمرها 16 سنة بحسب كلامها، فالعادات والتقاليد في المنطقة تفرض ذلك. لذلك ما تريده الحملة إيجاد قانون يحد من زواج القاصرات مع مناصرة الحملة من عدة جهات حكومية، ليحمي القاصرات ويكفل لهن اكمال دراستهن على الأقل لعمر الـ 18 سنة.
من جهتها “مريم” أم لبنت تبلغ من العمر 18 عاما تزوجت بعمر الـ 15 سنة، ومن ثم تم انفصالها عن زوجها بعد ثمان أشهر، لتتزوج بعد أقل من عام من رجل متزوج ولديه 3 أولاد. تقول “مريم” : “زوجت ابنتي لعدم قدرتي على تأمين لقمة عيشها، فأنا ارملة وليس لدي من معيل، لكن ابنتي طلقت مرة أخرى وحاليا تعيش معي بظروف صعبة. وهناك ضغوط من قبل أعمامها لتزويجها كون العادات والموروث المجتمعي يرفض بقاء الفتاة بدون زواج، حاولت اقناعها بأن تكمل دراستها، خاصة وأنني تزوجت بعمر أصغر من عمرها وأحصد حاليا نتائج هذا الزواج، لكن ابنتي ليس لديها الرغبة في التعلم”.
*الآثار الصحية..
“عبير ” طبيبة نسائية تشرح الآثار الصحية للزواج المبكر على حياة القاصرات استناداً إلى الحالات التي تعرض عليها فتقول: إن الحالات التي تأتي إلى المشافي، خاصة من الأرياف، هي حالات تمزق جماعي عقب الليلة الأولى من الزواج لفتيات بأعمار تحت سن الـ 18 سنة. إضافة إلى الأذيات الأخرى نتيجة هذا النوع من الزواج، والذي يؤثر على المثانة ويسبب السلس البولي وأعراض أخرى.
وتضيف: من الحالات التي تصادفها اعتقاد البنت أنها تعاني من العقم، لاسيما بعد مرور سنة على الزواج، إلا أن التوصيف الصحيح هو اضطراب طمثي نتيجة الدورات اللا إيباضية لعدم انتظام الهرمونات لدى الفتاة القاصرة، فيتم إعطاؤها محرضات وأدوية تؤثر على جسمها، وهي ليست بحاجة لها وغير مهيأة للحمل، الأمر الذي يسبب لها ضغطا حمليا، وهي حالة خطيرة جداً تسبب تسمما حمليا نسبة الوفاة فيها تصل إلى 50% للأعمار الصغيرة جراء نقص الأكسجة إضافة لأذيات عصبية وفالج وشلل ستعاني منه الفتاة القاصر في مثل هذه الحالات.
فعلى سبيل المثال فإن إحدى الحالات التي زارتني كانت لفتاة عمرها 27 سنة لديها 7 أولاد متزوجة من سن الـ 12 سنة والولادات كلها قيصرية، وهي تعاني حاليا من اضطرابات كثيرة. ونبهت إلى أهمية عدم تزويج الفتاة تحت سن الـ 18 سنة لمضاعفاته الشديدة على حياتها.
بدورها “أميمة حميدوش” مديرة جمعية موازييك للإغاثة والتنمية الإنسانية بدمشق توقعت أن يكون هناك أثر إيجابي للحملة، وطالبت بقانون يجرم تزويج القاصرات تحت سن 18، لما لذلك من أثر سلبي على بنية المجتمع، فالفتاة في هذا العمر غير صالحة لتربية إيجابية كونها بحاجة لمن يهتم بها.*الأثر النفسي..
المرشدة النفسية “رانيا مهنا” تحدثت عن حالات كثيرة تراجعها نتيجة زواج لقاصرات تحت سن الـ 15 سنة، وتتم متابعتها وتشخيص حالتها منذ زواجها لحين حملها وانجابها، قائلة: “إن أكثر الأعراض تكون حالات اكتئاب جسيم، نتيجة تلك الضغوط، والتي تسبب للفتاة حالة قلق معمم حيث تتوقع دائما وقوع كارثة مع مرافقة ذلك بصدمات نفسية جراء حالات العنف التي تمارس معها.
فإحدى الحالات التي راجعتها تعاني من أعراض هستيرية، حيث تزوجت في سن الـ 12 سنة وكانت تتعرض للضرب والخنق من قبل زوجها وممارسات غير أخلاقية، أدت إلى حدوث حالات اغماء مستمرة معها، وبقع على جلدها، وفقدانها للقراءة والكتابة. مع العلم أنها كانت تجيد القراءة والكتابة قبل زواجها، وعدم القدرة على الإنجاب. وهناك حالات أخرى لفتيات تزوجن في سن مبكر جداً، ولم يعشن طفولتهن كانت النتيجة حالة رفض تام لأزواجهن وقيامهن بعلاقات مع شباب وارسال صور لهن عبر وسائل التواصل الاجتماعي كردة فعل.
في حين أن السيدات اللواتي يأتين مع بناتهن، ورغم أنهن متزوجات في سن مبكرة، فإنهن يكررن التجربة نفسها ويزوجن بناتهن بعمر مبكر، والحجة كما أوضحن هي الخوف من أن ” تفلت البنت أو تقيم علاقة غير شرعية” كي لا يرفضهن المجتمع، خاصة وأن وصول الفتاة لسن الـ 18 سنة يعني أنها أصبحت عانس بحسب الموروث المجتمعي أو لأسباب اقتصادية على حد تعبيرهن “منخلص من لقمة عيشهن”. هذا رغم وجود حالات كثيرة لفتيات قاصرات تزوجن، ومن ثم عدن لبيوت ذويهن مطلقات ومعهن أولادهن، الأمر الذي يزيد من عبء الحالة الاقتصادية. وهناك آثار أخرى كارثية على الأطفال بسبب انتقال حالة الاكتئاب من الأم للطفل ما يسمى “الاضطراب المشاركي” إضافة إلى طريقة تربية الأم القاصر لطفلها من خلال الضرب كطريقة صحيحة بحسب اعتقادها.
وتضيف المرشدة “مهنا”: تأتينا أحياناً حالات تسمى بالنكوص لسيدات تجاوزنا عمر الـ 33 سنة بعد زواجهن بعمر الـ 13 سنة، تريد أن تعيد مراهقتها وترفض الواقع وتقيم علاقات غير شرعية.
تقول المرشدة “رانيا” راجعتني حالة لفتاة عمرها 14 سنة متزوجة بدوما تعرضت لتحرش من أحد جيرانها هذه التجربة سببت لها هزة نفسية استمرت حالة الاغتصاب من سن 9 سنوات لسن 13 سنة ، وأول زواج لها كان بعمر الـ 14 سنة ومن ثم زواج ثان بعمر 15 سنة وأجهضت أكثر من مرة، وكانت النتيجة اكتئابا شديدا وأعراضا جسدية ظهرت من خلال بقع على جلدها وحالات اغماء مما اضطرنا لإعطائها دواء نفسيا، إلا أن الأهل رفضوا إعطاءها ذلك الدواء.
*القانون موجود… لكن!..
القاضي الشرعي في التل “محمد بكر سالم” حمل المسؤولية للأب ولي الأمر بخصوص تزويج ابنته القاصر. وأرجع السبب لعوامل عديدة منها: الحرب، الأعباء المادية، وحالات النزوح أثناء الحرب ليتخلص الأب من لقمة عيشها. وقال إن حالات زواج القاصر زادت خلال فترة الحرب بنسبة كبيرة، ولا يوجد إحصائية دقيقة حول ذلك في منطقة الغوطة.
وبين أن تعديلات قانون الأحوال الشخصية لعام 2019 وبحسب المادة 16 تقول: “تكمل أهلية الزواج في الفتى والفتاة ببلوغ الثامنة عشرة من العمر، في حين أن المادة 18 تقول “إذا ادعى المراهق أو المراهقة البلوغ بعد اكمال الخامسة عشرة، وطلبا الزواج يأذن به القاضي إذا تبين له صدق دعواهما واحتمال جسميهما ومعرفتهما بالحقوق الزوجية.
وبالنسبة للعقوبات التي أوردها القانون، فإن قانون العقوبات وتعديلاته في المادة 469 تقول: “يعاقب بالحبس من شهر لستة أشهر ومن خمسين إلى مئة ألف ليرة كل من يعقد زواج قاصر بكر خارج المحكمة المختصة من دون موافقة من له الولاية على القاصر. كما ويعاقب بالغرامة من خمسة وعشرين ألف ليرة إلى خمسين ألف ليرة كل من يعقد زواج قاصر خارج المحكمة المختصة إذا تم عقد الزواج بموافقة الولي.
وأضاف أن تطبيق القانون على أرض الواقع قليل جداً، ويسقط بالتقادم وهناك صعوبة لضبط هذه الحالات إلا اذا تم الإبلاغ عنها أو إخبار النيابة العامة حينها تحرك النيابة الدعوى.
*الأمر ليس بالريف فقط..
من جهته القاضي الشرعي الأول بدمشق “مازن قطيفاني” أوضح أن “العقوبات بسيطة لا نلجأ لها بالحياة المجتمعية، وهناك حالات نادرة تحولت للقضاء الجزائي. فهناك موروث اجتماعي، يعتبر أن من يزوج ابنته القاصر ليس بجرم أو أنه “جرم بسيط”. وبالنسبة لإجراءات المحكمة الشرعية بين أن هناك تشددا، وذلك من خلال تدوين عمر الفتاة بالديوان، ومن ثم المشاهدة من قبل القاضي للتحقق. وحتى لو رفض القاضي تزويجها، فقد يلجأ ولي الأمر لقاضي بمحكمة أخرى أو يزوج ابنته بعقد عرفي، وبعد حملها يقوم بتثبيت الزواج في المحكمة.
ويضيف: هناك حالات كثيرة رفضتها. ومن الحالات الغريبة إجبار فتاة تبلغ من العمر 14 سنة والدها على تزويجها من شاب تحبه فما كان مني إلا إعطاء مدة زمنية للعودة مرة أخرى لتسجيل الزواج على أمل أن تغير الفتاة رأيها، إلا أنها عادت وهي مصممة والأب موافق على هذا الزواج. وقال: أنا مع تشديد العقوبات إلا أن تطبيقها صعب في ظروفنا الحالية.
*أرقام وتقديرات..
تظهر بيانات وزارة العدل أن عدد معاملات الزواج القاصرات لعام 2019 بدمشق كانت حوالي 1640 معاملة، انخفضت في العام التالي لتصل إلى 1297 معاملة، ثم عاودت الارتفاع قليلاً لتبلغ في العام 2021 حوالي 1557 معاملة من أصل 20 ألف معاملة زواج سنوياً. وفي العام الحالي ولتاريخه كان هناك 247 حالة زواج قاصر.
*مواجهة الظاهرة رسمياً..
على الصعيد الحكومي اتجهت الحكومات المتعاقبة عبر خطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية نحو التصدي لظاهرة الزواج المبكر (زواج القاصرات) ووضعت قيوداً شديدة عليها، وأصدرت الكثير من التشريعات والقوانين للحد من هذه الظاهرة.
كما اعتمدت المؤسسات الحكومية المعنية سياسة إلزامية التعليم الأساسي، واتخذت الكثير من الإجراءات والتدابير التي تحد من عملية التسرب وترك التعليم، ونوعت أنماط التعليم ما بعد الأساسي، مثل: التعليم الثانوي العام، والمهني، والصناعي، والتجاري والنسوي.. لإحداث وافتتاح أكبر قدر ممكن من فرص التعليم للشباب والشابات، ودعمت استمرار تكاليفه الرمزية أو شبه المجانية.
لكن حدوث الحرب فاقمت من زيادة زواج القاصرات خاصة في المناطق التي خرجت عن سيطرة الدولة “، وبحسب بيانات وزارة العدل فإن نسبة زواج القاصرات ارتفع من ٧% عام ٢٠١١ حتى ١٤% عام ٢٠١٨.
*أخيراً..
بالمحصلة نحن بحاجة بالفعل إلى قوانين صارمة تحد من تلك الحالات كونها تهدد بنية وتركيبة المجتمع ولما لذلك من آثار سلبية على شريحة عمرية مهمة سيكون لها دور كبير فيما لو تعلقت بعملية التنمية في البلد مع هجرة عدد كبير من الشباب (ذكور – اناث) والآثار الأخرى النفسية لهذا النوع من الزواج فهل نرى حلول قريبة ومنطقية.
الثورة
Post Views:
0