الاصلاحية | الملف
مع أن جوهر العقوبات الغربية المفروضة على سوريا، يستهدف أساساً منع إطلاق أيّ عملية لإعادة إعمار البلد الذي دمّرته حرب دخلت عامها الثاني عشر، إلّا أن ذلك لم يمنع تداول مصطلح «التعافي الاقتصادي» أخيراً في الأروقة الغربية، بل واستخدامه في تبرير بعض الإجراءات الاستثنائية لصالح دمشق. على أن عراضة هذا المصطلح لا تحجب حقيقة كونه مجرّد تغطية للحدّ الاقتصادي الأدنى المطلوب إرساؤه سورياً، «بشكل يؤدّي إلى استقرار اجتماعي وسياسي ويتجنّب الفوضى»، وفق ما يرى خبراء
برز، في خلال الأشهر القليلة الماضية، مصطلح «التعافي الاقتصادي» في ثنايا الخطاب السياسي لبعض الدول الغربية، المتعلّق بالأزمة السورية، لا بل إن الإجراءات الأميركية المتّخذة قبل بضعة أشهر، والمتّصلة بتخفيف عقوبات قانون «قيصر» عن نشاط بعض المنظّمات غير الحكومية، جرى تبريرها بالعنوان نفسه، في إطار ما بات يُعرف بسياسة «الخطوة مقابل خطوة» بين واشنطن وموسكو، في حين ورد ذكر هذا المصطلح أيضاً في بعض اجتماعات المبعوث الأممي إلى سوريا، غير بيدرسون. وأثار كلّ ذلك تساؤلات في شأن المغزى من الحديث عن «التعافي»، في وقت ترفض فيه الحكومات الغربية المشاركة أو السماح لشركاتها ومؤسّساتها بالانخراط في أيّ نقاش حول عملية إعادة الإعمار المنتظَرة، وما إذا كان الحديث المُشار إليه متشابهاً بين جميع الجهات التي تسوّقه، ومن بينها الحكومة السورية التي رفعت لواءه قبل عدّة سنوات، وبقي، لأسباب مختلفة، مجرّد شعار سياسي أكثر من كونه عملية اقتصادية.
المُستهدف هو الحدّ الأدنى
ليس مصطلح «التعافي الاقتصادي» جديداً على الساحة الدولية، ولا سيما خلال السنوات الأخيرة التي شهدت أزمات دولية عديدة، كان أهمّها التأثيرات العميقة لفيروس «كورونا» على اقتصادات الدول وحركة التجارة الدولية، فضلاً عن الحروب والنزاعات الداخلية والإقليمية، إذ حضر ذلك المصطلح كمرادف أساسي لجهود ما بعد تلك الحروب والأزمات. وبحسب ما يَذكر أستاذ القانون العام في كلية الحقوق في جامعة دمشق، عصام التكروري، فإن الفترة التي تلي الحروب الداخلية، ولا سيّما المركّبة منها كما هو الحال في سوريا، تعتمد آلية تعافٍ تقوم على أربع روافع وهي:
- خدمات الاستجابة للطوارئ والحاجات الأساسية.
- الإصلاح السياسي والإداري.
- إنجاز عملية المصالحة التامة.
- التعافي الاقتصادي
ويلفت التكروري، في حديثه إلى «الأخبار»، إلى أن «هذه الروافع الأربع شهدناها تتحقّق في دولة جنوب أفريقيا، عندما نضجت الإرادة الدولية لوضع حدّ للصراع الدموي ما بين البيض والسود بداية عام 1990، وكذلك شهدناها في لبنان بعد توقيع اتفاق الطائف عام 1989». من جهته، يميّز رئيس جمعية العلوم الاقتصادية في اللاذقية، سنان علي ديب، بين «العافية والتعافي الاقتصادي، وهما مصطلحان متضادّان، يمثّلان ظاهرتَين لطالما سمع بهما الباحثون والمختصّون بمستويات مختلفة، ما بين الاقتصاد العالمي الكلّي عبر مؤشّرات ومقاييس، وبين اقتصادات بلدان بحدّ ذاتها وكذلك في قطاعات متنوّعة. وأقرب وأكبر مثال حالة الاقتصاد العالمي في أعقاب انتشار فيروس كورونا، وما أدّى إليه من ركود وانكماش».
ويتيح تعريف «التعافي الاقتصادي»، توقّع الغاية من طرحه على الساحة السورية حالياً، في وقت لم يتبلور فيه بعد حلّ للأزمة المستمرّة منذ عام 2011. ويشير الباحث الاقتصادي، زكي محشي، في هذا السياق، إلى أن «التعافي الاقتصادي بالتعريف المبسّط، هو خروج اقتصاد دولة ما من حالة الركود الاقتصادي، التي سبّبتها أزمة أو حزمة من الأزمات، والبدء بتحقيق معدّلات نموّ إيجابية تعيد الناتج المحلّي الإجمالي إلى ما كان عليه قبل الأزمة»، مبيّناً أن «التعافي يأخذ أشكالاً مختلفة، منها التعافي السريع، أي العودة إلى معدّلات الناتج السابقة في فترة زمنية قصيرة نسبياً، والتعافي البطيء أي الحاجة إلى فترة زمنية طويلة نسبياً للعودة إلى هذه المعدّلات». ويضيف، في حديثه إلى «الأخبار»، أن «هناك أيضاً التعافي عند الحدّ الأدنى، وهو أسوأ أشكال التعافي، بحيث لا يتمكّن الاقتصاد من العودة إلى معدّلات الناتج السابقة حتى بعد سنوات من انتهاء الأزمة نتيجة الخلل البنيوي الذي أصابه، وعادة ما يرتبط هذا الشكل بالاقتصادات التي تتعرّض للحروب والنزاعات الطويلة الأجل مثل ما حدث في سوريا».
ويبدو أن الشكل الأخير هو المستهدَف سورياً من قِبَل الخارج، حيث تقتصر الإجراءات هنا على تمويل أو تسهيل إنجاز بعض المشروعات المحدودة، والمعنيّة بتوفير جزء من الخدمات العامّة للسكان، سواءً في المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة، وهذا ما أظهرته بوضوح التصريحات الأميركية تعقيباً على الاستثناءات التي أقرّتها واشنطن على قانون «قيصر»، أو في المناطق الخاضعة لسيطرة المجموعات المسلّحة في الشمال والشرق. وتالياً، فإن مصلحة السوريين تبدو ضئيلة، خصوصاً أنه ينبغي، بحسب محشي، «التمييز بين التعافي الاقتصادي والتنمية التضمينية أو الشاملة، إذ إن مصطلح التعافي يعبّر فقط عن العودة (أو الاتجاه نحو العودة) إلى معدّلات الناتج السابقة، بغضّ النظر عن توزيع الناتج وأثره على الحالة المعيشية للسكّان، بعكس المنظور التنموي التضميني أو الشامل، والذي يتضمّن إلى جانب البُعد الاقتصادي بعداً اجتماعياً ومؤسّساتياً».
المصلحة واحدة
مؤشّران يجعلان من الحديث الخارجي عن «التعافي» محلّ تشكيك: الأوّل هو الدور السلبي الذي لعبته دول كثيرة في مسار الأزمة السورية؛ والثاني التجارب الدولية السابقة المماثلة من أفغانستان والعراق إلى لبنان، حيث فشل «التعافي الاقتصادي» في تحقيق تطلّعات الشعوب، وتحوَّل إلى مجرّد شعار لترسيخ رواسب الحرب ومغانمها. ولهذا، يعتقد التكروري أن «التصريحات التي يدلي بها مسؤولون أجانب حول إمكانية حدوث تعافٍ في الاقتصاد السوري نتيجة إجراء يسمح لمنظّمات غير حكومية بالعمل في سوريا، أو يرفع بعض الأشخاص أو الشركات من قوائم الحظر، هي تصريحات تحت مستوى الكلام، لأن الدول التي ينتمي إليها أولئك المسؤولون، وخصوصاً الأميركيين منهم، هي المسؤولة بنفسها بشكل مباشر عن الاعتلال الحاصل في الاقتصاد السوري وفي الوضع المعيشي الصعب للمواطن؛ فالولايات المتحدة هي قوّة احتلال عسكري، وتمارس عملية النهب الاقتصادي الممنهج لخيرات شرق الفرات، وتدعم الإرهاب بكلّ صنوفه، وهي رأس الحربة في التدابير الاقتصادية القهرية الأحادية الجانب المفروضة على سوريا».
وهذا ما يذهب إليه أيضاً محشي، ويعمّمه على جميع الأطراف المؤثّرة في الأزمة السورية، و«المهتمّة فقط بمصالحها واستثماراتها الريعية في سوريا، وبالتالي تسعى في أحسن الأحوال إلى تحقيق التعافي عند الحدّ الأدنى، وبشكل يؤدّي إلى استقرار اجتماعي وسياسي ويتجنّب الفوضى». ويشدّد على أن «المساعدات والدعم الخارجي مطلوبان وأساسيان لتحقيق التعافي وخروج سوريا من الكارثة، إلّا أن السوريين وحدهم هم مَن يحدّدون طبيعة هذه المساعدات، فإمّا أن تكون قائمة على علاقات ومصالح خاصة، وتديرها القلّة من أصحاب الأعمال لتحافظ على التعافي بحدوده الدنيا، وإمّا أن تكون مُوجَّهة وتنموية تشرف عليها مؤسّسات مؤهَّلة. وبالتالي، فإن حدود المصطلح لدى الأطراف الخارجية تتوسّع في حال أثبت السوريون قدرتهم على بناء مؤسّسات عادلة وفعّالة وقادرة على إدارة التعافي بشفافية».
وكان مصطلح «التعافي» الذي وجد طريقه إلى الخطاب الحكومي منذ عام 2014، بقي بلا برامج وسياسات تنفيذية، بدليل التدهور الكبير في الأوضاع الاقتصادية خلال السنوات الثلاث الأخيرة. ومع ذلك، لا يستطيع أحد، كما يرى التكروري، «أن ينكر أنه ما زال بإمكان الحكومة السورية اتّخاذ جملة من التدابير الاقتصادية التي تستطيع أن تساهم في تحريك عجلة الاقتصاد الداخلي من خلال برامج حقيقية لدعم القطاعَين الصناعي والزراعي، وكسر حلقات الاحتكار على المستوى التجاري، والابتعاد عن سياسة الارتجال والتجريب لدى مقاربة الشأن المعيشي للمواطن السوري»، إذ إن مقوّمات التعافي، بحسب ديب، متوفّرة، «لكن ما نجده من سياسات انعكست تأثيراتها على المؤشّرات الاقتصادية الرئيسة في البلاد كالتضخّم الفظيع، وزيادة البطالة، وغير ذلك، هو دليل على الحاجة إلى تغيير تلك السياسات والبرامج، بحيث يتمّ استثمار الموارد الوطنية بشكل صحيح، بعيداً عن العقوبات والاحتلال وسرقة الثروات».
زياد غصن – الاخبار
Post Views:
0