حيدر حيدر: «الفهد» يغادر إلى ملكوته

خليل صويلح – الأخبار

انطفأ أمس في طرطوس حيدر حيدر (1936-2023) طاوياً رحلة طويلة بين المنافي، قبل أن يستقر في سنواته الأخيرة في قريته «حصين البحر» كنوع من العزلة الاختيارية. في مراجعة أرشيفه السردي، سنجد صاحب «وليمة لأعشاب البحر» حاضراً بأسماء مختلفة، فهو «مهدي جواد» حيناً، و«مهيار الباهلي» طوراً، و«هزيم إسماعيل» في فضاء آخر، وحتى «أبو علي شاهين» الفلاح المتمرّد على الإقطاع في روايته «الفهد»، في تقاطعات صريحة مع سيرته الذاتية، مستدعياً مدناً، وشخصيات، وشجناً شخصياً. كأن الرواية بالنسبة إليه هي موقد لإشعال نار السخط والغضب، وكتابة الذات، من دون مواربة. شاعر ضلّ طريقه إلى الرواية بجرعات مكثفة تمنح السرد ألقاً إضافياً لجهة التمرّد اللغوي: «الروح متعبة والجسد حزين. الزمن يعبر. يكسرك كما تكسر العاصفة أغصان الشجر» (هجرة السنونو).

يمثّل حيدر حيدر صورة المثقف المهزوم والمثقل بالخيبات وانكسار الأحلام، فيقرر مغادرة «بلاد تعيش البغضاء والاستبداد والفساد» أوائل سبعينيات القرن المنصرم إلى بيروت للعمل في «دار ابن رشد للنشر»: «آن الأوان كي تنجو بنفسك من هذا الجحيم». اشتعال الحرب الأهلية اللبنانية (1975)، ثم الحصار الإسرائيلي لبيروت (1982)، يقذفان به إلى منفى آخر، ليجد نفسه في قبرص أو «جزيرة النعاس الأزرق»، وقبل ذلك إلى الجزائر، البلاد التي ألهمته كتابة روايته الملعونة «وليمة لأعشاب البحر»، وما جرّته عليه لاحقاً من تهمة التكفير على إثر طبعها في القاهرة، ومنعها في أكثر من دولة عربية.

في كتابه «يوميات الضوء والمنفى» يؤرخ لخسارات متتالية، وهو يرى أحوال التدهور والتدجين وحطام المدن، والخيانات. يوميات مضادة تنطوي على سخط عمومي مما آلت إليه أحلام جيله، حاملاً على ظهره سناماً من الهزائم والاندحارات والخديعة، إذ تهتز صورة المثقف الثوري أمام أهوال ما حدث ويحدث في خرائط سريالية، يعالجها ببسالة الاعترافات، وبهتك ما هو مستور، بأقصى حالات الغضب. وقد وجد نفسه محاصراً مثل «حيوان في قفص»، فعدا الخيبة من الأنظمة الاستبدادية، اكتشف عن كثب مثالب المنظمات الفلسطينية التي انتسب إليها متطوعاً في ورشات الكفاح المسلّح، ليتساءل أخيراً، أمام أهوال الهزائم: «هل هذا الذي جرى حقيقة أم ضربة كابوس؟»، من دون أن يندم يوماً على أنه رمى السهم أبعد من مرماه، في بلاد «تحمل جنازتها تحت غيم من الغبار والرمل» على «درب الحريق، ودرب الغريق، ودرب السدّ الذاهب فيه لا يُرَدّ». لكن مهلاً، أليست تجربة صاحب «مرايا النار» كابوساً طويلاً؟ فهذا المثقف المتفرّد لم يهنأ يوماً بالطمأنينة، ما انعكس على نصوصه، منذ مجموعته القصصية الأولى «حكايا النورس المهاجر» (1968)، ثم روايته الأولى «الزمن الموحش» (1973)، التي صُنفت في المرتبة السابعة ضمن قائمة أفضل مئة رواية عربية، ثم رواية «الفهد» التي تحوّلت إلى فيلم بتوقيع المخرج الراحل نبيل المالح (1972).
على الأرجح، فإنّ تجربة صاحب «شموس الغجر» هي مرآة لصورته الشخصية الممزقة بين المنافي، من عنّابة إلى بيروت، وباريس، ونيقوسيا، وصولاً إلى حصين البحر، يتأمل البحر من خيمة على الشاطئ، كصياد سمك يتعلّم الصبر كل يوم، كما لو أنه همنغواي آخر في رصد أحوال الهلاك. في «الوعول»، و«التموجات»، و«الفيضان»، و«مفقود»، و«مراثي الأيام»، بقي حيدر حيدر مخلصاً لأسلوبيّته في استدعاء تيار الوعي من جهة، والدفق الشعري في شحن العبارة نحو حدودها القصوى، ما وضع الرواية السورية في منعطف آخر. هكذا اختزل مجد حيدر الرحلة الشاقة للأب، بجملة واحدة عن فجيعته «الفهد غادرنا إلى ملكوته».