كتب الاعلامي و الكاتب نبيل صالح :
النظرية الرُبيعية في تصحيح المرويات الإبراهيمية
أولا:
ظهرت الديانة التوحيدية في مصر الفرعونية قبل مجيء موسى واليهود بزمن طويل غير أن أساس الديانات الإبراهيمية بني على توراة موسى، حيث تبنى المسيحيون والمسلمون رواياته وساهموا في انتشارها وترسيخها، وكان أول من أقدم على تفكيكها ونفي نسبتها إلى موسى هو الفيلسوف الألماني اليهودي باروخ اسبينوزا (1632 – 1677م ) في كتابه ” رسالة في اللاهوت والسياسة ” حيث أقام مذهبه على أساس الفصل بين الفلسفة والدين مؤكدا بذلك على أن المعرفة في مجال الدين تكون مختلفة عن المعرفة الطبيعية القائمة على أساس العقل، إذ أن غاية الفلسفة هي الحقيقة وغاية الإيمان الطاعة والتقوى، ومن هذا الباب أخضع اسبينوزا الكتاب المقدس للنقد التاريخي في كتابه آنف الذكر وفتح بابا للمنهج العقلي في نقد الفكر الديني وأساطيره المؤسسة، فالنقد التاريخي كما يرى اسبينوزا سابق على الإيمان بالمصدر الإلهي للكتاب المقدس وهو الضامن لصحته من حيث هو وثيقة تاريخية تتضمن الوحي الإلهي، حتى لا يخلط الناس بين البدع الإنسانية والتعاليم الإلهية.. فقد وجد اسبينوزا أن أسفار التوراة تسمي أماكن لم تكن موجودة في زمن موسى، حيث ذكر في سفر التكوين أن موسى لاحق أعداءه حتى مدينة دان وهذه المدينة لم يكن اسمها معروفا من قبل حتى استولى عليها بنو دان وعمروها وأطلقوا عليها اسم دان، وأورد كذلك الكثير من الشواهد والأدلة التي أوصلت اسبينوزا إلى تقرير أن الحاخام ابن عزرا (1092 – 10167 م) هو مدون التوراة الحالية وليس موسى عليه السلام.. وقد عوقب اسبينوزا بقسوة من قبل الكهنوت اليهودي ونجا من محاولة اغتياله بأعجوبة، رغم تأكيده أن حرية الفكر لاتمثل خطرا على الإيمان ولا على سلامة الدولة، وقد فتح بذلك بابا أمام المفكرين المسيحيين فيما بعد لاستخدام منهجه الفلسفي في تفكيك نصوص الإنجيل وتمهيد إنتقال أوروبا إلى عصر الأنوار بعد استعادتها للفلسفة اليونانية، عن طريق المترجمين العرب، والبناء عليها بعد ألف عام من عمل الكهنوت المسيحي على طمسها وتدميرها كليا .. ذلك أن الذين عبدوا لنا طريق الحقيقة قد دفعوا الثمن غاليا لكي نحصل عليها اليوم مجانا دونما مشقة أوعناء..
ثانيا:
بعد ثلاثة قرون وصلت طلائع التنوير الأوروبي إلى البلاد العربية، ومشى العديد من المفكرين العرب على منهج اسبينوزا في نقد تفاسير التوراة وشروحها، ومنهم كمال صليبي، وأحمد داود، وسيد القمني، وفرج الله ديب، وأحمد قشاش، وزياد منى… فوضعوا كتبا شككت في جغرافيا التوراة ومسرح أحداثها و قالوا أنها ليست في فلسطين، غير أن مشروع المفكر فاضل الربيعي النقدي كان الأكبر، إذ خصص عشرات الكتب النقدية في استقراء وإعادة تصحيح وترتيب الحكايات والأساطير المؤسسة لثقافات المنطقة مستخدما مناهج التحليل العلمي في تعرية الأساطير وتصحيح الروايات. وكما واجه عميد الأدب العربي طه حسين في منتصف القرن الماضي هجوما من جماعة النقل السلفيين بعد صدور كتابه ” في الشعر الجاهلي” مستخدما فيه المنهج الديكارتي في نقد الروايات التاريخية، يحصل اليوم مع الربيعي في سلسلة كتبه الإشكالية التي أربكت سكون المستنقع السلفي الآسن الذي لم ينتج سوى الطحالب والوحول التي راكم رواة اليهود طبقاتها قبل أن تتسلل إلى المرويات الإسلامية ومن ثم الإستشراقية التي غذت أسطورة أرض الميعاد في فلسطين حتى لم نعد نميز الزائف من الصحيح، مع التنويه أن عمل فاضل الربيعي لا يقتصر على المطابقة الجغرافية والتأويل النصي وتطبيق المنهج الديكارتي فقط وإنما بكونه اشتغل ميدانياعلى تأكيد نظريته حيث زار مسرح دراسته ثلاثة عشر مرة قادما من هولندا وسورية والمغرب ومصر إلى اليمن، منكشا في الحفريات الأثرية لتأكيد أن مسرح القصص التوراتية هي اليمن وليست فلسطين..
ثالثا:
بدأ الربيعي مشروعه في تدقيق وتصحيح المرويات التاريخية في المنطقة قبل ربع قرن، عندما قرأ مخطوط الحسن بن أحمد بن يعقوب الهمداني: “الإكليل وصفة جزيرة العرب” حيث طابق بين أسماء الأماكن التي أوردها الهمداني وجغرافيا التوراة ليصل إلى استنتاج مفاده أن أورشليم ليست في فلسطين حسب ما كرسه المستشرقون، ولا في عسير كما قال د.كمال صليبي ، وإنما تقع في اليمن!
اعتمد الربيعي في تحليله التاريخي على التنقيبات الأثرية ومطابقات الأماكن الجغرافية واستعان بالشعر العربي لتأكيد استنتاجاته، كون الشعر ديوان العرب ومؤرخ أيامهم، حيث يكثر شعراء الجاهلية من ذكر أسماء وصفات المناطق التي يمرون بها حتى ليمكننا وضع خريطة تاريخية للجزيرة العربية باعتماد أسماء الأماكن الواردة في قصائد الشعراء العرب. وقد لاقى ماذهب إليه الربيعي تأكيدا من بعض مؤرخي اليمن حسبما ذكر ناشره..
ورغم اختلاف الربيعي جزئيا مع غيره من المؤرخين الذين شككوا في جغرافية التوراة الفلسطينية فإنه يثني على جهودهم ويعتبر نفسه مكملا لخطهم التصحيحي، ويؤكد على ريادة كمال الصليبي في هذا المبحث، إذ يشكل كتابه: ” التوراة جاءت من جزيرة العرب” فتحا معرفيا عظيما ، غير أن الصليبي استخدم المنهج اللغوي في نظريته، بينما اعتمد د.أحمد داود على المنهج الأسطوري في دراساته المقارنة للتوراة، أما الربيعي فيعتمد، إضافة على ماتقدم، على ديوان الشعر العربي وعلى بقايا النقوش والآثار اليمنية، وهم بذلك جميعا يقومون بعمل جليل إذ يسلطون الضوء على الحقيقة المغيبة، كل من منظوره وأدواته الخاصة بالكشف والتي تكذب ماذهب إليه الكثير من المستشرقين والصهاينة، حيث يمكن القول أن الربيعي قد تعمق في موضوع الإستشراق الذي عمد أساطينه إلى تأكيد الرواية الصهيونية حول مسرح أحداث التوراة، بما يمكن اعتبار جهده مكملا لعمل إدوارد سعيد العظيم “الإستشراق” الذي حاصر فيه المستشرقين ووضعهم في موقف حرج لم يستطيعوا الخروج منه بعد.
رابعا:
تأثرت كتابات الربيعي التاريخية ببداياته الصحفية والأدبية من حيث سلاسة السرد الروائي ودقة التحقيق الصحفي، لذلك يميل أسلوبه إلى التشويق والحماس بينما يغلب الحذر والبرود العلمي على غيره من المؤرخين الذين خاضوا في مسألة التوراة وتاريخ اليهود، وقد يكون ذلك أحد أسباب إقبال الناس على قراءة كتبه، نظرا لتبسيط مواضيعه وتدفق لغة السرد فيها، غير أن الأكاديميين عموما لايحبون هذا النوع من المؤرخين الشعبيين لذلك وجهوا انتقاداتهم له، كما فعلوا مع الباحث فراس السواح من قبله، وكذا كان الأمر مع شيوخ السلفية الذين يتخوفون من أن تؤدي مثل هذه الأبحاث إلى وضع القرآن الكريم أمام اختبار النقد التاريخي فيهددون كل من يقارب ذلك، تماما كما فعل حاخامات اليهود مع اسبينوزا قبل بضعة قرون .. غير أن الربيعي كان يتوسع في موضوعه التصحيحي من دون استفزاز جمهور المحافظين، متعظا بمن سبقه من المصححين التاريخيين، فلم تُمنع كتبه كما لم يتعرض للخطر بعد، رغم مؤلفاته التي قاربت الخمسين كتابا يناقض فيها يقينيات التيار النقلي بعقل جدلي، مستخدما فيه المنطق الفلسفي للوصول إلى الحقائق المقنعة، وهو مايزال مستمرا في توسيع دائرة مشروعه النقدي.
خامسا:
اختلف المؤرخون حول سبب تسمية اليهود بالعبريين: هل لأن قبيلتهم عبرت نهر الفرات أم البحر الأحمر أو نهر الأردن، ولكنهم اتفقوا جميعا على فعل العبور وأن بني إسرائيل قدموا من خارج فلسطين.. وهذا يدعم نظرية الربيعي في أن فلسطين ليست موطن اليهود الأساسي وأن عشائرهم جاءت من خارجها، حيث تقول المرويات أن اليهود جاؤوا فلسطين أيام الخليفة عمر، الذي أكمل عمل النبي محمد فأجلى العديد من عشائرهم من الجزيرة العربية إلى أريحا وأذرعات (درعا) في بلاد الشام، حيث تتبع الربيعي فرضية أن مملكة اليهود كانت في اليمن ثم هاجروا منها مع غيرهم نحو حواضر الشمال بعد انهيار سد مأرب، وهو يظن أن اليهود قبائل عربية بالأصل .. والواقع أنه بعد المراجعة يمكننا أن نتأكد أن الكثير من عرب الجزيرة دخلوا في الدين اليهودي رافضين عبادة الأصنام، في يثرب وخيبر وفدك ووادي القرى ونجران وحضرموت والإحساء وغيرها ، أي أن العرب كانوا مؤهلين اجتماعيا لفكرة التوحيد غير أن النسخة الإسلامية كانت أكثر قبولا من النسخة اليهودية والمسيحية لديهم، حيث دخل الكثير من اليهود والمسيحيين فيها، إما عن قناعة أو طمع أو خوف، والله أعلم..
سادسا:
يقول الربيعي أن أورشليم مدينة السلام في التوراة ليست القدس، فهي في التوراة تقع فوق جبل وهذا الجبل لا يوجد في فلسطين إذ لا يوجد وثيقة أو شواهد أثرية أو أي شيء يدل على أن القدس المدينة العربية هي نفسها القدس التي تقصدها التوراة. بل أن الوصف التوراتي الجغرافي ينطبق على المنطقة الممتدة من وادي الرمة حتى جنوب مدينة تعز اليمنية، إذ تقع على جبل، بينما تتوضع مدينة القدس فوق هضبتين. وقد وضع كتابا كاملا لتأكيد نظرية أن ” القدس ليست أورشليم” ، وفي الواقع فإن التنقيبات الأثرية في فلسطين خلال قرن مضى لم تستطع تأكيد أي وجود لهيكل سليمان ومملكة داود أو غيرها من المزاعم الصهيونية، وحتى حجارة حائط المبكى فإنها تعود إلى زمن بناء المسجد الأقصى، وكان المسلمون يطلقون عليه اسم حائط البراق، وهو يشكل الجزء الجنوبي من السور الغربي للمسجد وقد ادعى اليهود ملكيته بعد وعد بلفور سنة 1917 على أنه جزء من هيكل سليمان، رغم أن الكتاب الأبيض الذي أصدرته بريطانيا عام 1928 ينص صراحة على ملكية المسلمين للجدار.. والواقع أن هناك طوائف يهودية كالسامريين لاترى أن الهيكل موجود في القدس وإنما هو موجود في إثيوبيا !
إذا فقد بنى الربيعي على نظرية أن إسرائيل لم تكن في فلسطين واشتغل عليها أركيلوجيا مستخدما مناهج البحث العلمي التاريخي بالإضافة إلى الإستعانة بعلم اللغة المقارن، بعد دراسته للعبرية، والمقارنة بين ترجمات التوراة للوصول إلى الحقائق التي تدحض الروايات الإسرائيلية المعاصرة حول أسطورة أرض الميعاد لينتقل منها إلى نقد وتحليل المرويات المسيحية والإسلامية وإعادة النظر بالتاريخ الإبراهيمي كله..
سابعا:
يبدأ الربيعي سلسلة مراجعاته في تاريخ الخطأ الإبراهيمي بتصحيح رواية المستشرقين لقصة ابراهيم وسارة، فهو يرى أن إبراهيم لم يخرج من مكان يُدعى “أور الكلدانيين” في العراق القديم ، ولم يقصد “حاران – حرّان” في هضبة الأناضول (تركيا الحالية)؛ ولم يذهب منها إلى مصر لييمم بعدها نحو فلسطين، وإنما عاش ابراهيم ومات في بلاد اليمن . ويعتمد الربيعي في روايته الجديدة على نقوش المسند اليمنية من حقبة الجوف مملكة مصرن ( 850 ق م ) والتي تدل على أن أسرة الخليل الكهنوتية حكمت وسط اليمن ابتداء من 900 ق م، وأن إبراهيم كان أكبر كهنة معبد إيل – مقه، أو مكة، وأنه ينتمي لأسرة الخليل وقد ورث الكهانة طبقا لمبدأ (البكر السبئي)، أي النظام الوراثي حيث يرث الإبن البكر أبيه. وهذا ما يفسّر لنا الرواية الإسلامية التي تتحدث عن تمرد ابراهيم الخليل على عبادة الآلهة الآشورية، وكيف قام بتحطيم أوثانها قبل أن يهاجر إلى حضرموت وسط اليمن.
وبناء على ماتقدم لايمكن أن تكون كعبة ابراهيم التاريخية إلا في اليمن وليس في مكة، حسب النقش السبئي الذي يورده الأستاذ الربيعي ويقول عنه بأن (برهم وسمع إيل) أي ابراهيم واسماعيل حملا الحجارة ورفعا قواعد البيت (كما في النص القرآني)! وهذا يستدعي إعادة النظر بدور مكة في تاريخ ماقبل الإسلام والذي تم تضخيمه وأسطرته زمن الأمويين ، حيث يقول أن قريش لم يكونوا سادة الجزيرة العربية كما تقول المرويات الإسلامية، إذ ماذا لدى حاضرة لاتنتج فائضا لكي تعمل على تصديره؟ فمكة كانت في “واد غير ذي زرع ” وبالتالي لم تكن ذات تجارة عالمية بمواردها المحدودة، كما لم تكن لديها قوة عسكرية تحمي طرق تجارتها، وإذا كانت مكة بهذه السطوة كما تقول المرويات فلماذا تخلت عن دورها بعد الإسلام !؟ فمكة لم تكن معروفة في التاريخ القديم ولم تذكر في المرويات اليونانية أو البيزنطية ولم تسجل على خرائطها الجغرافية، كما لم تكن لها أهمية دينية أو تجارية تضاهي الطائف وكعبتها ومهرجانها الثقافي في عكاظ، ولم تكن قريش ذات سطوة أو سيادة على الجزيرة وإنما المعينيون والسبأيون الذين دونت النقوش نشاطهم هم من كانوا سادة التجارة بين اليمن ومصر والشام، ولم يكن القرشيون سوى مجموعات ترفيق مع القوافل.. وفي كتابه ” إيلاف قريش” يبدي الربيعي براعة في نقد تاريخ الإسلام الرسمي الذي شكله الفقهاء والسياسيون، مع التنويه أنه “لايدعو إلى نقد الدين الإسلامي العظيم” حسب قوله، والواقع أن الربيعي يخوض في ذلك رغم نفيه له، ذلك أن مثل هذه البدايات لابد أن توصل المسلمين إلى ماوصل إليه المسيحيون من نتائج بعد استخدامهم المنهج العلمي في النقد التاريخي للنصوص المقدسة، وتعريض نصوص النقل إلى أدوات العقل في التحليل والإستنباط، على خطى اسبينوزا وطه حسين وإدوارد سعيد وأحمد داود والصليبي والسواح وسيد القمني…
ثامنا:
في أي أرض تاريخية يمر بها فاضل الربيعي لابد أن يصدمك برواية منطقية مخالفة للقصص المتداولة عنها ، فهو مثلا، بعد نظريته المختلفة عن التوراة ومن ثم الكعبة المشرفة وقريش، يأتي ليقول لنا في كتابه “المسيح العربي” أن النصرانية العربية بدأت في نجران وهي غير المسيحية الرسولية، وأن صورة عيسى بن مريم مختلفة عن صورة يسوع المسيح، وأن الديانة الحنفية ليست سوى صورة متراجعة عن النصرانية العربية التي تلاشت بفعل الصراع البيزنطي الفارسي ، فالنصرانية العربية هي أم المسيحية الرسولية التي ولدت على يد بولس الرسول الذي ربط المسيحية فيما بعد بمجموعة من الأفكار والرؤى الفلسفية الهيلينية المتعلقة بالكلمة (اللوغوس) حيث نِشأت المدرسة النسطورية (نسبة إلى نسطوريوس – القرن الخامس الميلادي) التي تقول أن المسيح هو كلمة الله وأنه ذو طبيعتين إلهية وبشرية.. وكان النساطرة يحظون بدعم فارس بينما كانت بيزنطة تدعم اليعاقبة والذين يقولون أن المسيح إله كامل وإنسان كامل في الآن ذاته، مما تسبب بانشقاق كنيسة الإسكندرية وسورية عن كنيسة روما ثم بيزنطة، حيث اتهم الفريقان المنشقان بعضهما بالهرطقة، وقد غذت فارس وبيزنطة هذا الإنشقاق لصالحهما.
وبالعموم فإن دراسة الربيعي حول المسيح العربي” أَلسنية الطابع يستخدم فيها أدوات الصليبي وأحمد داود في التأويل، غير أنه يظهر معرفة واسعة بالشعر والكتب المقدسة والمرويات العربية، وتأويلاته منطقية في بعضها ولكن لايمكن تأكيدها أركيلوجيا بخلاف بحثه التوراتي المعمق. إذ لابد للقارئ من أن يدهش من كم الروايات غير المكرسة في المرويات الإسلامية الرسمية والتي تدل على تنوع دين العرب وأنهم لم يكونوا جميعا وثنيين، وأن هذا التنوع يشي بالحرية الدينية عندما نعرف أنه كان لديهم في الكعبة أيقونة تمثل والدة عيسى الناصري وابنها معلقة إلى جانب آلهة القبائل الأخرى، حتى لتبدو الكعبة أشبه بالبانثيون اليوناني الذي يجمع آلهة كل الإغريق، مع التنويه أن الكعبة وجدت قبله بقرون عديدة.. وينتهي الربيعي في نظريته إلى أن الديانات التوحيدية نبتت كلها في الجزيرة العربية: اليهودية في اليمن والنصرانية في نجران والإسلام في الحجاز، حيث تشكل هذه المراكز الثلاثة وحدة إيكولوجية توحيدية متكاملة.
تاسعا:
على منهج اسبينوزا يتابع فاضل الربيعي تفكيك حكايات النبي سليمان الأسطورية، بدءاً من روايات الإخباريين اليهود كوهب بن منبه وكعب الأحبار المدسوسة في الثقافة الإسلامية حيث تحولت بمرور الزمن إلى حقائق يتبناها المسلمون بما فيهم رجال الدين الذين يستشهدون بها في خطبهم على أنها مواعظ الأولين، وهذا أخطر ماوقع فيه عرب اليوم، إذ تشابكت ثقافتهم مع ثقافة عدوهم الذي يستعمر بلادهم وتماهت إلى درجة نجد فيها أغلب ضحايا إسرائيل من الفلسطينيين يحملون اسم سليمان وموسى ويوسف وهارون ! إذ كيف ستقارع عدواً وتنتصر عليه وأنت مازلت تؤمن بأساطيره التي تشيطن أهلك الفلسطينيين وتجعل من الإسرائيليين شعب الله المختار الذي وعدهم بأرض فلسطين؟ وأمام هذه الأحجية يمكننا أن نفهم لماذا لايمكننا الإنتصار على دولة إسرائيل حتى الآن، فالأمر يتعلق بإهمال برنامج الأمن الثقافي العربي ومحتوياته المفخخة بالإسرائيليات؛ كما يمكننا أن نفهم دأب الربيعي لإعادة كتابة تاريخ المنطقة الذي استهلك منه عمره وماله وصحته.. غير أنه يحاذر الإقتراب من وضع روايات النص القرآني أمام النقد التاريخي بشكل مباشر شأنه في ذلك كشأن سيد القمني في كتابه عن موسى، إذ أن غالبية المسلمين اليوم ليسوا جاهزين بعد لتقبل مثل هذا النوع من الدراسات، لكن الأمر لن يطول إلى الأبد مع انطلاقة محركات الذكاء الصنعي، واعتماده على مقارنة المحتوى في تقديم الأجوبة، وقد يكون العرب والمسلمين في مقدمة الفائزين من نتائج هذه المقارنات التاريخية ، أما أكبر الخاسرين فهم تيار الصهيونية المسيحية وخارطة طريقهم إلى هرمجدون التي رسموها قبل ثلاثة قرون، حيث أن مفكرين شجعانا كالربيعي وكل من ذكرناهم في المقدمة قد فكك كل منهم جزءاً من المستعمرة الأسطورية التي بناها الكهنة والمستشرقون الذين تبنوا نصوص التوراة (العهد القديم) باعتبار أنها متجذرة في الكتاب المقدس (العهد الجديد) حيث أصدر جون كالفن ومارتين بوكر كتاب ” مبادئ الدين المسيحي ” مشددان فيها على البركات الإلهية المرتبطة بالطاعة للعهد، والمشروطة بها، وقالا أيضا أن ثمة عهدا واحدا يشترك فيه المؤمنون بالعهدين القديم والجديد: ” ذلك أن ملكوت السماوات الوحيد الذي وعد به ربنا يسوع المسيح أتباعه، ملكوت واحد سوف يتكئون فيه مع ابراهيم واسحق ويعقوب! وقد ذهب مفسروا الكالفينية فيما بعد إلى أن عبارة ” إسرائيل” في الإنجيل هي إشارة إلى كنيسة المؤمنين من اليهود والأمم ! ثم توسع هذا التفسيرليشمل كل أمة اليهود بما فيهم غير المؤمنين، ومنها انتشرت فكرة اهتداء الشعب اليهودي في بريطانيا والمستعمرات الأمريكية ونشأت عقيدة استعادة اليهود وقيام “مملكة إسرائيل” بين المسيحيين البروتستانت، وقد طور السير هنري فينتش هذه الفكرة في كتاب بعنوان ” الإستعادة الأكبر في العالم” حيث يقول: ” حين تذكر إسرائيل أو يهوذا أو صهيون في الكتاب المقدس فالروح القدس لايقصد بها إسرائيل الروحي أو كنيسة الله المؤلفة من الأمم، بل إسرائيل نفسه المتحدر من صلب يعقوب. وينطبق الأمر عينه على عودتهم إلى أرضهم ومواقعهم القديمة وعلى انتصارهم على أعدائهم.. إسرائيل هي الكنيسة التي سينشئونها في أرض يهوذا نفسها.. ليست هذه الأسماء استعارات أو رموزا في الكتاب ولكنها تشير حقيقة وعلى نحو حرفي إلى اليهود”.
ذلك أن المسيحية الصهيونية منذ القرن السابع عشر بدأت بالتمهيد لفكرة أرض الميعاد مستخدمين تفسيرات مخالفة للكنيسة الرومانية، وقد نضجت الفكرة بعد الحرب العالمية الأولى وتبناها ساسة الإنكليز لكي يتخلصوا من يهودهم الممسكين بعصب المال بدلا من الطريقة التي اعتمدها هتلر للتحرر من هيمنتهم المالية، حيث كان يهود أوروبا أرباب المال والذهب.. وباقي القصة نعرفها منذ وعد بلفور.. لهذا فإن عمل مؤرخينا الجدد في تفكيك الأساطير الإسرائيلية التي تكرسها مروياتنا الإسلامية قد يكون أكثر فعالية من عمل جيوشنا العربية خلال قرن مضى، ولابد من ترجمة أعمال الربيعي وكل المفكرين العرب الذين اشتغلوا على كشف أساطير “إسرائيل” التوراتية كي نتمكن من إقناع الغرب المسيحي ثقافيا ودينيا وبالتالي سياسيا، إذ أن لمواقف الغرب الإسرائيلية جذورا سرطانية تحتاج إلى علاج معرفي وهو لن يكلف حكوماتنا أكثر من ثمن دبابة أوصاروخ أو طائرة نشتريها، ذلك أن الثقافة هي خط استباقي وسور دفاعي لحماية أمننا الوطني المتداعي.
مراجع :
- باروخ اسبينوزا : رسالة في اللاهوت
- ستيفن سايزر : الصهيونية المسيحية ، خارطة طريق إلى هرمجدون
- كمال الصليبي: التوراة جاءت من جزيرة العرب
- إدوارد سعيد: الإستشراق، المفاهيم الغربية للشرق
- جلال الدين السيوطي: الدر المنثور في التأويل بالمأثور
- فاضل الربيعي: القدس ليست أورشليم – بنو إسرائيل وموسى لم يخرجوا من مصر – ابراهيم وسارة، الهجرة الوهمية – فلسطين المتخيلة – مكة وإيلاف قريش – الشيطان والعرش: رحلة النبي سليمان – المسيح العربي، النصرانية في الجزيرة العربية والصراع البيزنطي الفارسي
Post Views:
0