واحدة من المسلمات الأساسية المترتبة على كارثة الحرب، أن البلاد لن تعود إلى ما كانت عليه قبل العام 2011، سواء فيما يتعلق بطريقة إدارة الشأن الداخلي سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، أو لجهة البنية المؤسساتية للدولة وتعاطيها مع مختلف القضايا المحلية والخارجية.
لكن مثل هذه المسلمة لا تعني فقط التسليم بما أفرزته سنوات الحرب، وإنما تفرض كذلك ضرورة مراجعة وتقييم السياسات المستمرة منذ حوالي ستة عقود من الزمن بكل “عجرها وبجرها”، لاسيما فيما يتعلق بالأخطاء والمشاكل الناجمة عنها، والتي كانت الحرب بمثابة كاشفة لا ناشئة لها، ولعل أهم تلك السياسات ما يتعلق بالأدوار التي كلفت الدولة القيام بها، ومدى أهمية الاستمرار بها وفقاً للصيغة المقرة لها منذ العام 1963، والأهم ماهية البدائل المناسبة أو الأدوات الجديدة الواجب اتباعها عند الانحياز إلى خيار إعادة هيكلة تلك الأدوار.
سمات إيجابية وسلبية:
إذا كانت هناك من سمات إيجابية عامة لدور الدولة بشكله الحالي فهي بحسب الأستاذ في كلية الاقتصاد بجامعة دمشق الدكتور غسان إبراهيم قد تقلصت بشكل كبير جداً بدءاً من العام 2018 ولغاية تاريخه، أي منذ مرحلة ما يمكن تسميته بداية نهاية الأزمة، وليس كما يعتقد البعض أن ذلك حدث منذ بداية الأزمة، ويضيف في حوار خاص مع “أثر برس” أن هذه السمات كثيرة وهي نفسها الناجمة عن ممارسة أي دولة في العالم لدور إيجابي، وهي يمكن تلخيصها في سوريا في عدة نقاط أبرزها: مجانية الصحة، التعليم، والمستوى المعيشي الذي كان مرتفعاً، لا بل إن سوريا تصنف اليوم كثالث دولة في العالم من حيث رخص الأسعار فيها، وهذا بغض النظر عن المدخول والرواتب. وعليه فإنه يمكن القول إن دور الدولة كان مقبولاً إذا لم يكن نشيطاً قبل الأزمة، وقبل الأزمة بسنوات طويلة، وتحديداً في عقد السبعينيات، الثمانينيات، والتسعينيات.
وحول السمات العامة السلبية الناجمة عن ممارسة هذا الدور اقتصادياً واجتماعياً وفكرياً، فإن “أكثر ما يعبر عن هذا الدور السلبي على الصعيد الاقتصادي هو الأزمة الاقتصادية الخانقة الناجمة عن أسباب داخلية وخارجية، ولعل انهيار الوضع المعيشي هو خير دليل على هذه السلبية الكبيرة جداً والعميقة، والتي يبدو أن إمكانية حلها في المدى المنظور شبه مستحيل”، أما السلبية المتشكلة اجتماعياً فإن “المجتمع بدا ضعيفاً منذ ما قبل الأزمة، وكان يفترض أن يتفعل أكثر خلال الأزمة، لكن كما نعلم فإن هناك غياباً شبه تام لمكونات المجتمع من أحزاب ومجتمع الأهلي ومنظمات تطوعية وغيرها، والتي كان يمكنها رفد الدولة والتخفيف عن كاهلها في كثير من المساعدات الاجتماعية وغيرها”.
ولا يختلف الوضع كثيراً على الصعيد الفكري، “فهناك غياب شبه تام للمؤتمرات وورش العمل والاجتماعات والمحاضرات المهتمة بتطوير مفهوم الدولة، وخاصة الدولة المعاصرة أو الراهنة، وما هو مطلوب منها أي حقوق المواطن عليها وواجبه تجاهها”.
ويخلص الدكتور إبراهيم في تقييمه إلى أن “المناخ يبدو بشكل عام غير مناسب على الإطلاق لتفعيل دور الدولة أكثر ليكون على الأقل مشابهاً لما كان عليه قبل العام 2011، خاصة وأنه مطلوب من هذه الدولة الكثير، وتحديداً في الجانب الاقتصادي، فما بالنا إذاً بالجانبين الاجتماعي والفكري، وهما برأيّ أعقد بكثير من الجانب الاقتصادي”.
الالتزام أولاً:
كثيراً ما يتردد مصطلح “إعادة الهيكلة” عند الحديث عن واقع مؤسسات الدولة والقطاع العام، إنما قليلة هي الحالات التي يتم تحديد الطرق التي يمكن عبرها تطبيق هذا المصطلح، والذي لا يمكن حصره دوماً بعملية اختزال للهياكل الإدارية والتنظيمية، ولذلك فإن إعادة هيكلة دور الدولة كما يعتقد الدكتور إبراهيم “تنطلق أولاً من خلال الالتزام المطلق بتطبيق القوانين والتشريعات والأنظمة، سواء كانت عصرية أو غير عصرية، وتالياً ترسيخ دولة القانون والمؤسسات وهذا كفيل بأن يجعل المصلحة الخاصة محكومة من قبل المصلحة العامة، أو أن يتم تحديد المصلحة الخاصة من قبل المصلحة العامة، فوظائف الدولة في الوقت الراهن ليست أكثر من الإدارة، التخطيط، والتنظيم، بحيث لا تحل الدولة بأي شكل من الأشكال محل الأفراد فيما يتعلق بالأنشطة الاقتصادية أو الاجتماعية أو الثقافية أو الفكرية، بمعنى آخر أن تقوم الدولة فقط بالتوجيه والإرشاد والرقابة على الصعيد الاقتصادي، وألا تنافس الأفراد في إقامة المشروعات أو التجارة أو المجال الإنتاجي الزراعي أو الصناعي أو الخدمي، وبذلك فإن حضورها يجب أن يقتصر على بعض الأنشطة الاستراتيجية”.
ويقترح الأستاذ الجامعي بضرورة الاطلاع على التجارب التاريخية والنظريات الاقتصادية العالمية التي عالجت مثل هذا الملف، وحددت الخطوات المطلوب لإعادة هيكلة هذا الدور، والذي يبقى محكوماً بظروف كل دولة وخصوصيتها، مع الإشارة إلى أن تدخل الدولة في الاقتصاد لا يقتصر فقط على الشكل التقليدي والبدائي المتمثل في شكل الملكية، فهناك أشكال أخرى عصرية كأن يكون تدخلها من خلال التشريعات والقوانين والأنظمة.
لكن هل هذا يعني تخلي الدولة عن وظيفتها الاجتماعية؟
يجيب الدكتور إبراهيم على هذا السؤال بالتأكيد على أن ذلك “يتحقق بتوجيه الدولة للاقتصاد عن بعد، وعبر القوانين والتشريعات فقط، لكي ينمو ويعمل بشكل منتظم ومتوازن وعادل، وبشكل لا يسمح معه بتحقيق المالك أو المنتج لربح صغير أو كبير على حساب المستهلك، وألا تكون الأسعار دون الربح المطلوب من المنتج. وبإمكان الدولة أن تبتعد عن هذا التدخل بشكل تدريجي، وعندما نقول إن تبتعد الدولة عن التدخل، فهذا ليس معناه المس بسياسة الدعم، التي كثر حولها النقاش والسجال في الفترة الماضية جراء ما صدر من قرارات وإجراءات خاصة ببعض السلع والمنتجات، وبهذا الخصوص أود التأكيد أن الدعم سياسة ضرورية ومطلوبة بغض النظر عن الوضع المعيشي للمواطنين، وعن طبيعة الدولة غنية كانت أم فقيرة، فهذا الدعم موجود لكثير من السلع حتى الآن في جميع الدول الرأسمالية أي في الدول الصناعية المتقدمة. فمثلاً دعم القطاع الزراعي في الولايات المتحدة الأمريكية، والتي هي عرين الرأسمالية، ليس له مثيل على الإطلاق على مستوى العالم.
إذاً دعم هذه السلعة أو تلك أمر مفروغ منه وليس هناك بديلاً عن هذا الشكل، وما قيل عن إمكانية استبداله بدعم المستهلك (البدل النقدي) فهو خيار غير مجد بالنظر إلى أن أسعار السلع في الأسواق المحلية تتغير باستمرار، لاسيما أسعار السلع الغذائية والطبية والخدمات التعليمية وغيرها، مع التوضيح هنا أن إعادة تنظيم هذا الدعم وهيكلته بحيث يستفيد منه المواطن هو مطلب حق، لكن ذلك لا يتحقق بالطريقة التي جرت لدينا مؤخراً، فالزيادة التي طرأت على أسعار السلع والمواد في السوق المحلية كانت أعلى بمرة ونصف المرة من الزيادة التي جرت على الرواتب والأجور”.
زياد غصن – اثربرس
Post Views:
0