لو كتبت كتاباً عن الطعام والطعوم والنكهات، لربما سمّيته “لذائذ الفم”، لست متأكداً من فعل ذلك. لكن المؤكد أنني سألحقه بجزء ثانٍ مباشرة وأسمّيه: “القهوة وحدها”. سيدفعني إلى ذلك حس العدالة، والرغبة العميقة في ترك شيء صادق خلفي حين أغادر الدنيا، والإخلاص للحواس، لا سيما التذوق والشم، كما كنت أعتقد سابقاً، والنظر واللمس والسمع، كما صرت أعرف الآن.
ذات مرة طرح صديق سؤالاً: قبل أن يحمّص الناس البنّ ليصنعوا القهوة، ماذا كانوا يطلقون على اللون البني؟
أجبته من حواسي لا من عقلي: ما حاجة الذين لم يتذوقوا ذاك الطعم، ولم يحمّصوا البن بعد، لإطلاق اسمٍ على لون؟
أثق أنّه صار لوناً مستقلاً يستحق اسماً خاصاً به حين صار يشي بهذا الشغف، وحين صارت رؤيته محراكاً لمكامن اللذة الغامضة، والوعد بتذوق ذلك السحر مرة أخرى.
قبل تحميص البن، كان الناس يضعون ذاك اللون ضمن تدرجات الأحمر، وما زالت العرب حتى اليوم تطلق اسم “الحمرا” على الفرس البنية، والناقة البنية، واسم “الحمراء” على قصر غرناطة العظيم الذي بُني بحجارة بُنّية.
يحزنني الذين يتحدثون عن طعم القهوة. وأرغب ان أصرخ فيهم: ليست القهوةُ فاصولياء أو فقداً أو سُكّراً أو نوماً أو دجاجة، ليكون لها طعم، هي شيء كالندماء والذكريات والمساء والحياة: نكهة.
لذلك، من بين كل ما يمكن أن يضاف الى القهوة، يتعرض السكّر لأكبر كمٍّ من الشتائم. لا لأنه العلامة التي تميز المثقفين عن العوام، كما تحب الطرائف السمجة أن تقول. بل لأنه طعم، وحين يُضاف الطعم إلى عالم كامل من النكهة الصافية، يطغى عليها، ويصبح سيد المكان في منافسة ينقصها التكافؤ. باقي الإضافات (التي لا تحصى) تتنوع بتنوع الثقافات والشعوب، لكنها تتشارك جميعاً صفة النكهة. تقبلها القهوة وكأنها تقول: نعم هذه مبارزة عادلة، كلانا نكهتان، فتعالي نرى الغلبة لَمن.
يقبل البنُّ الهال والقرنفل والزعفران والزنجبيل والقرفة والورد والياسمين والحليب والصويا والشوفان واللوز وجوز الهند والقشدة والزبدة والكونياك والفودكا والويسكي والمسك والمستكة وجوزة الطيب والفلفل الحار. ويبقى اسمه بُنّاً. السيد بنّ.
وهو اسم جميلُ تقول الحكاية أنه اسم النبتة بالأثيوبية القديمة، والتي تعرّف عليها الهولنديون في منطقة كافا بأثيوبيا، فحملوها معهم، هي واسمها (كوفي)، إلى أوروبا.
والوحيد بين من أعرفهم الذي التقط عبقرية هذا الاسم، هو طلال حيدر، فهو يقول في قصيدة الكفافي: “يا بنّ اسمك حلو سمّيت حالي بن”.
وهو البيت الذي تجاهله بعض مَن غنوا القصيدة. لأنهم ظنوه قليل الشعرية ربما. فجعله وديع الصافي (وتلاميذه) يا حبّ اسمك حلو. وكأن الحب أعلى شأناً من القهوة، بينما غنّاه كما هو مارسيل خليفة وأميمة خليل (ومدرستهما).
الحكايات التي وصلتنا تقول إن أول من اكتشف البن، راعٍ، لاحظ بهجة عنزاته بعد أن تتلقم تلك الحبوب الصغيرة الخضراء، والحكايات تجعله مرة راعياً في جبال اليمن، ومرّة في سهول أثيوبيا. لا يهمني أين، فأنا ممتنٌ لكلتا العنزتين، ولكل عنزة يمكنها أن تعثر لنا على اكتشاف كهذا، حتى لو كانت في حكاية. بل وأرغب في إطلاق اسم عليها، كما فعل بعض المفرطين في إيمانهم حين أطلقوا اسم “حزون” على الذئب الذي لم يأكل النبي يوسف، واسم “دولّي” على النعجة التي أنجبت نفسها.
احتاج إسماً لتلك العنزة، ولست بحاجة إلى اسم الكاهن الأثيوبي (أو اليمَني) الذي غضب من الراعي وحبّاته المريبة الآثمة، فألقى بها في النار المقدسة لتحترق هناك عقاباً لها على تلويث عقول المؤمنين بالبهجة، وهو الاحتراق الذي صار مكافأة لنا، بعد مراحل أكثر تعقيداً من تشكّل الدولة الرومانية، عبَرتها حبات البن، لتتفرع منها تلك الشجرة الضخمة من الوصفات المتنوعة بتنوع الشعوب.
سمّيت الرجل الغاضب كاهناً، لأراعي اختلاف الروايات. فمن يُرجعون الحادثة إلى العام 800 ميلادية، يحتاجون أن يكون شيخاً، ومَن يرجعونها إلى القرن الرابع قبل الميلاد، يحتاجون أن يكون “شاماناً”. وبكل الأحوال فإيقاع تحميص القهوة، وانتظام تدرج لونها من الأخضر إلى الأسود الباهت، فيه شيء من سجع الكهّان.
تجذّرت القهوة في الثقافة العربية، لدرجة أن سلاطين بني عثمان، حين سنّوا قوانين صارمة لمنعها، استجابةً لفتوى شيوخهم، استثنوا اليمن وبعضاً من الجزيرة العربية، ودمشق وجبل لبنان لاحقاً، لأن لا طاقة لهم لإنفاذ قانونهم.
في الوقت ذاته من القرن السادس عشر، حين كانت القهوة تخوض معركتها في العالم الإسلامي، كان كرادلة الكاثوليك يتناقلون في ما بينهم تفاصيل جديدة عن المؤامرة الشيطانية التي يحيكها المسلمون على العالم المسيحي، عبر إرسال مشروب القهوة إلى أوروبا لتخريب المجتمع والكنيسة، فطلبوا بشكل جماعي من بابا الفاتيكان كليمت الثامن أن يصدر تحريما قطعياً لتعاطيها وبيعها. فطلب أن يتذوقها قبل أن يصدر حكمه. وبعدما أخذ رشفتين بحذر وترقّب، أجهز على فنجانه وقال: لقد جرّبت المشروب الشيطاني ووجدته لذيذاً جداً، وسيكون من الخطيئة أن أتركه للكفار وأحرم منه المؤمنين.
تحررت القهوة بالتدريج من التهم الكثيرة التي واجهتها عبر تاريخها، وهي الآن تخوض آخر آخر ما تبقى من بعض أطباء العصبية والهضمية الذين يتقولون ويفترون عليها.
في السعودية وبعض دول الخليج، يطلقون على ابريق القهوة اسم “الشاذلي”، لأن انتشارها الأول من اليمن باتجاه الشمال ارتبط بأصحاب الطريقة الشاذلية الصوفية، إذ كانوا يستعينون بعناصرها على قيام الليل، وببهجتها على بهجة المناجاة.
وفي بوادي الشام والعراق، يسمون إبريقها دلّة، لأنها توضع على تلة الجمر أمام بيت الشَّعر دلالةً لعابري الطريق أن: تعالوا. وفي مدنها، تسمى الركوة، لأنها ترتكي على الجمر لتغلي بهدوء. ودولة، وهو اسم آرامي لوعاء الماء اشتقت منه العربية اسم الدلو.
لصنع القهوة ألف طريقة وطريقة، أُحبّ منها ثلاثاً. قهوة الطليان الواضحة الكثيفة الصريحة التي اشتهرت عالمياً باسم اسبرسو. وقهوة عرب الجنوب الأقرب للطليانية بالطعم، والتي تُطبخ على الجمر لساعات، وربما لأيام، وتُشرب بجرعات قصيرة وسريعة ومتكررة. وقهوة عرب الشمال التي يسميها العالم اليوم، التركية، رغم أن الزمن الذي صنعت فيه وانتشرت هو الزمن الذي كانت فيه القهوة محرّمة في المناطق المسماة الآن تركية.
لاحظتُ حين أصنع القهوة التركية بشروطها المفضّلة، أي في ركوة نحاسية ممشوقة على نار متوسطة، وأضع بملعقة طويلة بنّاً أشقر متوسط التحميص خالياً من أي إضافات، لا سيما الهال والسكر، وبعد أن يبدأ الماء بالغليان، لا بارداً كما يحلو للبعض أن يتحذلق… لاحظت أن القهوة تفور صاعدة على حواف الركوة بإيقاع خاص متكرر، سجّلته وسألت عنه خبراء الموسيقى فقالوا: أنها تفور على مقام النهاوند. وحين وصفت لهم كيف تصعد من الفم إلى الرأس ثم تعاود النزول إلى باقي الجسد قالوا: هذا مقام الصبا.
وللغة القهوة خصوصيتها، فكل الروائح تفوح، تنتشر، تضوع، إلا القهوة تهفّ. هي تهفّ في الأنف كما تهفّ في الذاكرة. وحين نضيف البن إلى الماء فنحن نلقّمها، مثلها مثل أي سلاح نلقمها.
مزاج القهوة اسمه عند العرب الكَيف. ومنه أخذ المصريون الاسم إلى الحشيش.
أصنع القهوة لي ولأسرتي ولضيوفي لأن بقايا البدوي التي فيّ علّمتني أن القهوة يصنعها الرجال. فهكذا كانت التقاليد في بيت الشَّعر، والمفارقة أن أكثر أفعالي بدويةً يجعلني أبدو للآخرين حداثياً ومتحضراً ونسوياً.
“متحضّرٌ” يصنع فنجان قهوة لابنته، لكنه يستحضر دائماً غزَلاً قاله شاعر فراتي بمحبوبته وبدأه بـ: يا بنت أبو نجرين.
والنِجر هو مهباج الخشب الثقيل الذي تدقّ به القهوة العربية، والشاعر لم يجد في حبيبته خيراً من أن يقول إنها ابنة الكريم الذي لا يكفي مهباج واحد لقهوة ضيوفه الكثر.
ربما لم تكن هناك عنزات تقافزت على جبل في اليمَن، لكن ذلك لا يهم.
فالقهوة مثل قانون الجاذبية ومثل يوسف بن يعقوب في “أحسن القصص” تحتاج تلك اللمسة. تستحق حكاية.
المصدر: المدن
Post Views:
0