مع انتهاء الانتخابات التشريعية واقتراب تشكيل حكومة جديدة، ستجد الحكومة السورية نفسها أمام تحديات تنموية صارخة، خصوصًا في ظل تحولات جيوسياسية سريعة التغير وتصاعد للتوترات الإقليمية.
عن د. رشا سيروب – موقع اوان
صدرت في سوريا، على مدار السنوات السابقة، قوانين وقرارات عدّة هدفت على ما يبدو إلى تحفيز الاستثمار ودعم الإنتاج المحلي، لكنّها في الواقع لم تنعكس إيجابًا على الأداء الاقتصادي الكلي. ففي العام 2022 (بحسب “أحدث” بيانات رسمية صادرة عن المكتب المركزي للإحصاء) انخفض الناتج المحلي الصافي بتكلفة عوامل الإنتاج بما يقارب 50% مع انخفاض في عدد المشتغلين بأكثر من 320 ألف مشتغل وارتفاع معدل البطالة إلى 23.7%.
وبرغم محاولات ترشيد الاستيراد، استمرت المستوردات في استنزاف نحو نصف الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي، وتباطأ النمو الاقتصادي إلى أقل من 1% (0.76%). وإذا ما أخذنا معدل النمو السكاني في الحسبان، سنجد أن النمو الاقتصادي الحقيقي يمثّل قيمًا سالبة، وهو ما انعكس على تدهور وسطي دخل الفرد بشكلٍ حاد ليصل إلى 40% فقط عمّا كان عليه في العام 2010.
وقد سجّل الادخار بدوره قيمًا سالبة أيضًا بنسبة قاربت – 8% من الناتج المحلي الإجمالي. وإذا ما أضيفت إليها التحويلات الخارجية، ستشكل هذه النسبة خُمس الناتج المحلي الإجمالي. وتعكس معدلات الادخار السالبة صعوبة تمويل متطلبات الاستثمار عبر تعبئة الموارد المحلية، مما يعيق النمو الاقتصادي ويؤدي إلى تفاقم المشكلات الاقتصادية.
جميع هذه المؤشرات تعكس فشل السياسات الاقتصادية السابقة في تحقق الأهداف التي يُصرَّح بها، وهو ما سيضع الحكومة المقبلة أمام ملف اقتصادي مليء بالتشوهات والاختلالات والأخطاء، سيكون ــــ بلا شك ــــ أكثر ثقلًا من أي وقت مضى إن لم تعمل الحكومة بعقلية اقتصادية قائمة على نهج جديد يختلف جذريًا عمّا سبقه.
هناك اليوم فرصة تاريخية أمام الحكومة لإحداث تغيير إيجابي في مسار الاقتصاد إذا ما أحسنت صياغة أولوياتها وترتيبها وفق ثلاثة محاور، عناوينها: التمكين المالي للحكومة، وفرص التشغيل والحد من هجرة الكفاءات، والتنمية المدفوعة باعتبارات محلية.
معالجة عجز الموازنة العامة للدولة من منظور الإيرادات
برغم نجاح الحكومة السابقة في تخفيض العجز في المالية العامة للدولة إلى أقل من 7% نسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي في العام 2022، إلا أن هذا الإنجاز لم ينعكس إيجابًا على حياة المواطنين ولم يتمكن من توفير الخدمات العامة وتلبية الاحتياجات الأساسية للمواطنين.
إن التركيز على تخفيض العجز كرقم مجرد، دون النظر إلى الأسباب الكامنة وراءه، يشكّل قصورًا في الرؤية الاقتصادية والاجتماعية للحكومة. فالعجز الناتج من منع انهيار التماسك المجتمعي ودعم الفئات الفقيرة والأكثر هشاشة مختلف تمامًا عن العجز الناتج من النقص في الموارد العامة الناجمة عن التهرب الضريبي والفساد الذي يعاني منه الاقتصاد السوري.
يشكل الفاقد الضريبي ثلاثة أضعاف الدعم، أو سبعة أمثال الإنفاق الاستثماري الحكومي، أو يغطي 1.6 مرة من إجمالي العجز الفعلي.
والفاقد الضريبي هنا يعني الفرق بين الإيرادات الضريبية المتحصلة فعلًا وبين الحد الأدنى للإيرادات الضريبية نسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي (15%) التي تشكل عاملًا رئيسًا للنمو الاقتصادي والحد من الفقر في أي دولة وفقًا للبنك الدولي.
وبما أن العبء الضريبي يشكل فقط 4% من الناتج المحلي الإجمالي، فإن هذا يعني مساحة ضيقة جدًا لزيادة الطلب الكلي لتغذية النمو الاقتصادي.
التركيز على تخفيض العجز كرقم مجرد، دون النظر إلى الأسباب الكامنة وراءه يشكّل قصورًا في الرؤية الاقتصادية والاجتماعية للحكومة
يمثل الفاقد الضريبي الهائل تهديدًا وجوديًا للاقتصاد السوري وفرصة ضائعة لرفع مستوى معيشة الفرد وتلبية الحاجات الأساسية للمجتمع والأفراد، لذلك يجب على الحكومة الجديدة أن تكثف جهودها في معالجة الفشل في زيادة الموارد العامة للدولة.
هجرة الشباب والكفاءات
تشكل هجرة الشباب والكفاءات خسارة فادحة لسوريا، وهي القضية التي كثيرًا ما أهملتها الحكومة السابقة. في العام 2022، انخفضت قوة العمل لأول مرة منذ العام 2017، وأصبح 270 ألف شخص خارج قوة العمل. يُفسَّر هذا إلى حد كبير بهجرة الشباب والكفاءات، إذ شكّل حملة الشهادات الجامعية والمعاهد المتوسطة أكثر من 75% من إجمالي التسرب من قوة العمل، وهو ما يعني فقدانًا للطاقة الإنتاجية والإبداعية التي تسهم في دفع عجلة التنمية.
وباعتبار أن توفير فرص العمل، وتطوير الطاقات البشرية وحماية قوة العمل، من المبادئ الاقتصادية التي يؤسس لها الدستور السوري، فلا يجوز لأي حكومة أن تتغافل أو تهمل هذا الموضوع الحيوي.
وفي حين أن تكلفة إحداث فرصة عمل واحدة في المشروعات الكبرى تبلغ 500 مليون ل. س. بالمتوسط، فإن هذا المبلغ يمكن أن يخلق ما بين 10 و50 فرصة عمل في المشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر. فباستثمار مبالغ أقل، يمكن خلق عدد أكبر من فرص العمل مقارنة بالمشاريع الكبرى. وبما أن أكثر من 80% من التسهيلات الائتمانية تستحوذ عليها الشركات الكبرى، يجب إعادة توجيه سياسات الإقراض نحو المشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر التي تشكل استثمارًا استراتيجيًا في مستقبل سوريا.
لا يقل استنزاف رأس المال البشري خطورة عن التضخم والتهرب الضريبي والفساد، وهي الأمور التي تشكل أهم أركان تآكل المدخرات المحلية (العامة والخاصة).
لا مركزية التنمية
القضية الرئيسة الثالثة التي يجب على الحكومة الجديدة إعطاؤها الأولوية هي تحقيق التوازن بين السلطة المركزية والسلطات المحلية. في ظل الواقع المجزأ الذي تعاني منه سوريا، سيكون النمو الاقتصادي شبه مستحيل، ولن تكون البلاد قادرة على النهوض والازدهار دون فهم أساسي لكيفية عمل الاقتصادات المحلية.
يستدعي هذا الوضع تصميم سياسات اقتصادية قائمة على الاحتياجات المحلية تأخذ بالاعتبار خصوصية كل منطقة وتُبنى على تمكين المحليات كجزء من مجتمع اقتصادي واحد. بكلام آخر، يجب العمل على تحقيق الهدف الأول من قانون الإدارة المحلية رقم 107 لعام 2011 الذي يجعل “الشعب مصدر كل سلطة”. يمكن ذلك إذا ما وفّرت الحكومة الجديدة الدعم اللازم للمجالس المحلية من خلال تحديد واضح وغير مزدوج لسلطات مجالس الوحدات الإدارية وتوسيعها، كي تتمكن تلك المجالس من تأدية اختصاصاتها ومهامها في تطوير الوحدة الإدارية اقتصاديًا واجتماعيًا وثقافيًا وعمرانيًا.
تواجه سوريا تحديات معقدة ومتشابكة تتجاوز بكثير سذاجة استهداف مؤشرات رقمية خالية من القراءة التحليلية للتحديات الاقتصادية والاجتماعية. واليوم، هناك أمام الحكومة قائمة طويلة من القضايا غير التقليدية التي يجب مراعاتها. على سبيل المثال لا الحصر: عودة المهجّرين قسرًا (سواء المهجرين داخليًا وخارجيًا) أو إعادة توطينهم، وكيفية إعادة التشبيك الاقتصادي بين المناطق السورية المختلفة، والتفاوت في توزيع الدخل، والفساد، وغيرها الكثير.
جميع هذه القضايا تتطلب حلولًا مبتكرة وشاملة يتجاوز تنفيذها مجرد إصلاحات جزئية هنا وهناك.وفي الواقع، تستلزم هذه الأزمات المتراكبة إعادة تصور لدور الحكومة.
إن أفضل دور يمكن للحكومة الجديدة أن تلعبه لا يكون بالسيطرة أو التحكم، بل بخلق الظروف التي تؤدي إلى نتائج إيجابية للمجتمع ككل.
Post Views:
0