| منصة التحكيم | بقلم د.رشا سيروب |
بيّن البيان المالي للحكومة عن موازنة العام 2018 أن من أولويات الحكومة «تنشيط الدورة الاقتصادية وتحسين المستوى المعيشي» وهو ما يتفق مع ردود وزير المالية على تساؤلات أعضاء مجلس الشعب، موضحةً أن اعتمادات العمليات الاستثمارية قدرت بـ825 مليار ل.س بنسبة مقدارها 25.89 بالمئة من إجمالي اعتمادات الموازنة العامة لعام 2018، وإذا علمنا أنه تم رصد 388.45 مليار ل.س منها كاعتمادات احتياطية للمشاريع الاستثمارية «في حال عدم كفاية الاعتمادات المرصودة لها وارتفاع نسب التنفيذ لديها» و50 مليار ل.س للإعمار وإعادة تأهيل للمنشآت العامة وللتعويض عن الأضرار التي لحقت بالمنشآت الخاصة «هذا الرقم ثابت منذ موازنة 2014» نجد مجموع اعتمادات المشاريع الاستثمارية تصبح فقط 386.55 مليار ل.س أي بنسبة 12.13 بالمئة من إجمالي الاعتمادات.
إن هذا المعدل يثير القلق، لأن معدل الاستثمار العام يشكل مؤشراً ودلالة يعتمد عليها القطاع الخاص في زيادة استثماراته، ولا يمكن لهذه النسبة أن تشكل حافزاً ومؤشراً جيداً للقطاع الخاص ما سوف يؤدي إلى إحجامه عن القيام باستثمارات جديدة، وبما أن النمو الاقتصادي يتحقق من الاستثمارات الجديدة ومن زيادة إنتاجية الاستثمارات القائمة، فإن حجم الاعتمادات المرصودة للاستثمار العام تصبح الوسيلة الوحيدة التي يمكن أن تسهم في النمو الاقتصادي وفي خلق فرص عمل جديدة، وبذلك فإن رفع معدل الأموال المرصودة للاستثمار هي التحدي الحقيقي للحكومة إذا أرادت تنشيط الدورة الاقتصادية وتحسين المستوى المعيشي.
وبالنسبة للزيادة في الطلب الكلي الفعال، فإنه يتحقق من خلال وجود قوة شرائية للمواطنين والتي تتحقق من خلال خلق فرص عمل جديدة وزيادة الرواتب والأجور وانخفاض الأسعار وهو ما تسميه الحكومة في بيانها الوزاري توفير السلع والخدمات وبأسعار عادلة.
لكن إيجاد 51681 فرصة عمل «في كلا القطاعين الاقتصادي والإداري» عام 2018 باعتمادات لا تتجاوز 14.66 بالمئة من إجمالي اعتمادات عام 2018 وهي أقل بـ4818 فرصة عمل مقارنة مع عام 2017، وأيضاً الأقل منذ عشر سنوات، وهذه الزيادة تعتبر محدودة ولا تتناسب مع معدلات البطالة ومع عدد الداخلين إلى سوق العمل، مع العلم أن نسبة مخصصات الرواتب والأجور إلى إجمالي الاعتمادات للعام 2018 تعد أيضاً الأقل خلال السنوات العشر السابقة. لذلك لا يشير هذا الرقم إلى وجود أي تأثير فعلي على الطلب الكلي، ويترافق ذلك مع عدم قدرة القطاع الخاص على خلق فرص عمل إضافية بالتزامن مع ارتفاع الأسعار غير المسيطر عليه، وإذا ما أخذنا بالحسبان ارتفاع معدل الإعالة الاقتصادي فسنجد أن مستوى الرواتب والأجور في حالة يرثى لها.
لو تأملنا مؤشر أسعار المستهلك التي تشير الأرقام الرسمية لها إلى ارتفاع مستمر، أي إن التضخم يرتفع ومن ثم تحسين مستوى معيشة المواطن في تراجع، فسنجد أن القيمة الحقيقية للرواتب والأجور والتعويضات تراجعت بنسبة لا تقل عن 40 بالمئة مقارنة مع عام 2017. كما إن تحسين القوة الشرائية للمواطن في ظل عدم زيادة الرواتب والأجور يتطلب تخفيض المستوى العام للأسعار والذي يمكن تحقيقه من خلال مكافحة الاحتكار «سواء في الإنتاج أو التجارة» وممارسة وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك دورها كتاجر ومورد للسلع.
الإيرادات العامة والعدالة الاجتماعية
إذا كان جوهر فلسفة الدعم نابع من مساعدة الفقراء والشرائح الدنيا من الطبقة الوسطى والتي أصبحت تشكل معظم الشعب السوري نتيجة الأوضاع الراهنة، فمن البديهي إذاً أن يقوم الأغنياء ورجال الأعمال والمؤسسات والشركات بدفع الجزء الأكبر من الضرائب لكي تستخدمها الدولة في تمويل الإنفاق العام من أجل ضمان حسن توزيع الدخل ولجعله أكثر عدالة، إلا أن البيان المالي للحكومة يشير خلاف ذلك، فالأوزان النسبية لتوزع الإيرادات يكشف عن كفاءة الحكومة في تنشيط وتنويع الإيرادات العامة وعن توجهاتها السياسية ورؤاها الاجتماعية، ومن خلالها يمكن تحديد ما الفئات التي تسهم في توفير الجزء الأعظم من الإيرادات.
قُدرت الإيرادات الجارية بمبلغ 1540.11 مليار ل.س وهي تشكل 64.75 بالمئة من إجمالي الإيرادات العامة للدولة مقابل 837.89 مليار ل.س إيرادات استثمارية بنسبة 35.24 بالمئة تشكل الفوائض الاقتصادية ما يقارب 75 بالمئة منها، وإذا بحثنا في تركيبتها بتفصيل أكثر فسنجد أن إجمالي الضرائب والرسوم يبلغ 409,5 مليار ل.س بنسبة 26,59 بالمئة من إجمالي الإيرادات العامة، تشكل الضرائب المباشرة 29.55 بالمئة منها، بينما الرسوم المباشرة والضرائب غير المباشرة تتجاوز 70 بالمئة، وهذا يدل على وجود خلل في الهيكل الضريبي والتحصيل المقدر، فالرسوم والضرائب غير المباشرة تعتبر ضرائب «عمياء» لا تميز بين الغني والفقير، فلا تأخذ بعين الاعتبار العدالة الاجتماعية، وأن شريحة الفقراء والطبقة الوسطى هم من يدفعون القسم الأكبر منها، لأن شريحة الأغنياء التي لا تتجاوز نسبتها 5 بالمئة من عدد السكان مهما أنفقت لن يكون لمساهمتها أثر يذكر في حجم هذه الضريبة.
وأيضاً في مكونات الضرائب المباشرة سنجد أن الموظفين (ذوي الدخل المحدود) هم من يدفعون الضرائب ويمولون الخزانة العامة للدولة، حيث تشكل ضريبة الرواتب والأجور بحدود 28 بالمئة من الضرائب المباشرة بينما ضريبة الأرباح على الشركات تشكل فقط 35.54 بالمئة أما ضريبة الدخل المقطوع فلا تتجاوز 9.92 بالمئة وهي الضريبة التي يدفعها أصحاب المهن الحرة من أطباء ومهندسين وأصحاب ورش، وبذلك نجد أن الموظفين يدفعون ضرائب أكثر من أصحاب المهن الحرة وبنسبة تقارب نوعاً ما، تسهم به الشركات ورجال الأعمال في الضرائب.
بذلك نجد أن ذوي الدخل المحدود والفقراء والطبقة الوسطى تساهم بما يتجاوز 85 بالمئة من إجمالي الضرائب والرسوم؛ بذلك نجد أن الحكومة ما زالت غير راغبة في إشراك أصحاب الأموال والشركات في القيام بدورهم بالمساهمة في تمويل الموازنة العامة وفي تحمل مسؤوليتهم الاجتماعية تجاه الدولة والمجتمع، وأن شريحة الموظفين وذوي الدخل المحدود والفقراء والطبقة الوسطى هم الممولين الرئيسين للموزانة وهذا يعكس عدم العدالة في توزيع الدخل.
أما من حيث نسبة الضريبة المباشرة إلى إجمالي الإيرادات العامة فهي لا تتجاوز 8 بالمئة والذي يعد أحد أهم الاختلالات المالية، ويمثل نقطة ضعف أساسية في المالية العامة، ويعود ذلك إلى حجم التهرب الضريبي الكبير الذي يفقد الخزينة العامة للدولة مورداً أساسياً، وهذا يتطلب إعادة النظر بالنظام الضريبي المطبق وأن يقوم على أسس عادلة وتكون الضرائب التصاعدية هي المساهم الأساسي في موارد الدولة بما يحقق مبدأ المساواة والعدالة الاجتماعية (كما ورد في الدستور المادة 18).
ما زال لدينا تساؤل وإشارات استفهام حول مدلول بند إيرادات أخرى والتي تبلغ 352.86 مليار ل.س، وتشكل نسبته 23 بالمئة من الإيرادات الجارية، إلى ماذا يشير هذا البند؟ وما مكوناته؟ وخاصة أنه لم يوجد إلا في موازنة 2017 وحالياً في موازنة 2018؟
تضخيم مقدار الدعم وعجز الموازنة
يشير البيان المالي إلى أن الإيرادات العامة تبلغ 2378.57 مليار ل.س والنفقات العامة 3187 مليار ل.س، أي إن مقدار العجز يبلغ 808.43 مليارات ل.س، إلا أنه يجب أن نأخذ هذه التقديرات ببعض التحفظ، فإذا ما استثنينا 388.45 مليار ل.س «اعتمادات احتياطية للمشاريع الاستثمارية» وخفضنا حجم الاستثمار غير «المنفذ» ما يقارب 250 مليار ل.س – وفقاً لرئيس لجنة الموازنة في وسطي نسبة التنفيذ للمشاريع الاستثمارية 35 بالمئة – فسنجد أن حجم العجز لن بتجاوز 170 مليار ل.س أي بحدود 5 بالمئة من إجمالي الاعتمادات.
أما مقدار الدعم المرصود في الموازنة والبالغ 657.45 مليار ل.س فلا يجب النظر إليه كبند مجرد بعيداً عن الفروقات السعرية «الواردة كإيراد ضمن الإيرادات العامة» والتي تبلغ ما يقرب من 50 بالمئة من الإيرادات الجارية وهي تقارب 770 مليار ل.س، وهي أكبر من مقدار الدعم المرصود في الموازنة باكثر من 110 مليارات ل.س، أي إنه لا وجود فعلياً للدعم في الموازنة.
إن حجم التهرب الضريبي وعدم تخصيص مبالغ كبيرة للاستثمار وتخفيض عدد الوظائف مقارنة مع السنوات السابقة جميعها مؤشرات تؤكد أن الموازنة العامة لعام 2018 هي موازنة انكماشية، لذا نحن بحاجة إلى إجراء مراجعة حقيقية لبنود الموازنة للعام القادم وهذا يتطلب وجود رؤية اجتماعية وسياسية وليست محاسبية فقط، لدى كل من الحكومة ومجلس الشعب، رؤية تنحاز للعقلانية الاقتصادية ولمبادئ التنمية والعدالة الاجتماعية.
“الوطن”