الاصلاحية | عناية مركزة |
لم تكن ظاهرة الفساد مسألة عابرة في الحياة الاقتصادية والإجتماعية السورية، فهي نشأت مع الطفرة الإقتصادية التي شهدتها سوريا بعد حرب تشرين، والتوظيفات الكبيرة التي شهدها الإقتصاد السوري، والإنفاق الإستثماري الضخم لمشاريع القطاع العام التي توقف بعضها جزئياً أو كلياً عن العمل لاحقاً، و ما تلا ذلك من إجراءات و ردود أفعال كرست الخطأ ..
ويبدو أن اعتماد الإدارة الهرمية في الحكومة، والتواكل الإداري، وتشكيل مجالس ولجان و إدارات عليا، وفرت جميعها بيئة خصبة للفساد الذي أطاح بحكومة محمود الزعبي، علماً أن ممارسات بعض الحكومات لم تقتصر على الجانب المالي، وإنما تعداه الى الفساد الإداري الذي ذهب ضحيته كل من الوزير عصام الزعيم و معاونه بركات شاهين أثناء حكومة محمد مصطفى ميرو، وهذه القضية الملفقة عجلت بوفاة الزعيم ..
من هنا كان حوارنا مع معاون وزير الصناعة بركات شاهين (الصورة ) بإعتباره كان معايشاً و شاهداً على الظروف الإقتصادية التي عاشتها سوريا منذ التأميم .
إعادة إعمار .. بلا إدارات كفوءة
يقول شاهين إن ظروف الأزمة وتداعياتها على الإقتصاد السوري، لا يمكن حصرها ، مضيفاً أنه بالرغم من التضحيات الذي قدمها الشعب السوري خلال الحرب، نشأت طبقة من الفاسدين والمفسدين لا مثيل لها ، فاستغلت ظروف البلد و استفادت من المرونة و التسهيلات التي منحت للمستوردين و أصحاب القرار دون أي ضوابط أو قيود .
واعتبر الخبير شاهين أن دور الجهات الرقابية لم يكن منصفاً، فهي إن لم تكن طرفاً في الفساد فقد كانت دائماً مع الطرف الأقوى ، وبالتالي فقد جوّفت الوزارات و المؤسسات من أهم الكوادر و الإختصاصات الفنية، و لم تكن حارسة وأمينة على مصالح الأمة ، و بالتالي هبطت الإدارات اللاحقة الى أدنى مستوى لها في تاريخ سوريا مما قد يصعب على سوريا مرحلة إعادة الإعمار، بالإضافة لخسارة الوطن لجيل من الشباب الواعد بسبب الحرب.
عودة إلى الوراء:
يعود شاهين بالذاكرة عقوداً إلى الوراء ، فيكشف ل”داماس بوست” أن موقع سوريا الإقتصادي كان في فترة الخمسينيات كموقع البرازيل حالياً ، حيث حلت سوريا في المرتبة ٢٣ بين الدول الصناعية في العالم، ليدخل الإقتصاد السوري فيما بعد في نفق مظلم بعد التأميم ، حتى تراجع موقع سوريا إلى ما بعد المئة ، حيث كان التأميم ( بين عامي ١٩٥٩ و ١٩٦٥) أول مسمار في نعش الإقتصاد السوري (الذي لم ير النور إلا بعد عام ١٩٩١ ) وما رافق ذلك من هروب للكوادر و رأس المال الى الخارج ، بحيث اعتُبر السوريون رواد الصناعة في البلدان التي حلّوا فيها كمصر و تركيا والمغرب والعراق والأردن و قبرص..
بالمقابل، يقول شاهين، أُثقلت الإدارات الإقتصادية و خاصة الصناعة المؤمّمة بكوادر وإدارات حزبية غير مؤهلة ساهمت في هروب الكوادر الفنية وتوقف العديد من المعامل وخطوط الإنتاج في مجال النسيج (الجوخ السوري) والزيوت والأخشاب و المطاط والزجاج و….عن العمل .
حاضنة الفساد الأولى !
يضيف معاون وزير الصناعة : لم تدخل صناعات جديدة إلا بعد عام ١٩٧٥التي توسع خلالها القطاع العام توسعاً أفقياً كبيراً على حساب القطاع الخاص، عن طريق إنشاء العديد من المشاريع ، هذه المشاريع كانت ارتجالية وتفتقر للجدوى و لم تحقق عدالة في توزيع فرص التنمية بين المحافظات ، و هنا تشكلت الحاضنة الأولى للفساد حيث تم إنجاز ١٤٤مشروعاً صناعياً و خدمياً من صندوق المساعدات الخليجية لسوريا إثر حرب تشرين التحريرية، ثم تشكلت لجنة إنجاز المشاريع في رئاسة مجلس الوزراء .
ويؤكد شاهين : أقيمت مشاريع سمتها الغالبة أنها فاشلة سواء من حيث ابتعادها عن الإعتبارات البيئية والتنموية أو من حيث مواءمتها اقتصادياً أو اجتماعياً للمناطق التي تواجدت فيها (على سبيل المثال أقيم معمل الغزل القطني في اللاذقية في منطقة لا تصلح لهذه الصناعة بسبب المناخ الرطب و عدم توفر المادة الأولية ، و في المقابل أقيم معمل الغزل الصناعي الذي يحتاج إلى مواد أولية مستورة قرب مزارع القطن في الحسكة، و كذلك مصفاة النفط في طرطوس ومعمل الأسمنت المدمر للبيئة في الساحل بدلاً من البادية الواسعة وأيضاً الأسمدة في حُمُّص بدلا من خنيفيس .
وأكبر شاهد على تدمير الإنسان والبيئة و المياه وجود ثلاث منشآت ملوثة في غرب حُمُّص : معامل الأسمدة والمصفاة والمحطة الحرارية ، و على نفس الشاكلة مشاريع الدباغة والدهانات و المصابغ والمسالخ ..التي دمرت غوطة دمشق، وكذلك معمل ورق دير الزُّور الذي دمر البيئة الزراعية ولوث المياه الجوفية .. ). يضاف الى ذلك أن الخطط الزراعية أعدت بشكل مشوه للتنمية أيضا لأنها جاءت ملبية لحاجات الصناعة – كتجفيف سهل الغاب الذي كان يزرع فيه الرز البلوري ، فتم تحويله لزراعة الشوندر السكري لتلبية متطلبات معامل خاسرة كمعامل السكر .
فساد تخريبي لا حدود له!
كل ذلك – يقول بركات شاهين- أفقد الصناعة السورية و الإقتصاد الوطني ككل ومنذ البداية موقعه الريادي و أثقل ميزانية الدولة بعجوزات ناجمة عن خسارات شركات القطاع العام .، كذلك فإن التوسع في القطاع العام و مصادرة هذا القطاع للنشاط التجاري شوه النسيج الصناعي والقاعدة الإنتاجية و الخدمية و البنية التنظيمية للدولة، و أفرز أزمات متجذّرة في الإقتصاد و المجتمع السوري عجزت الحكومات المتلاحقة عن الخروج منها، وهذا النوع من الفساد رافقه نشاط تخريبي ليس له مثيل في العالم لأن الهدف الأساسي في دائرة القرار هي العمولة ( الإرتشاء ) بعيداً عن الإعتبارات الأخلاقية والتنموية . ولم تقف حدود الفساد عند هذه الحد لأن ذلك رافقه جيل فاسد اعتاش على فتات هذه المشاريع ، فمن تواطؤ لجان الإستلام التي تغاضت عمداً عن مواصفات الآلات و التجهيزات (لأن أغلب هذه المشاريع أقيمت بآلات موردة من الشركات الأجنبية كانت رخيصة غير مطابقة للمواصفات أو مستعملة)، إلى المنافذ الجمركية التي سمحت بإدخال الألات لهذه المشاريع و تسترت على منشأ الآلات و اعتبرتها جديدة و هي مستعملة، إلى الجهات المصرفية التي حررت الكفالات رغم معرفتها بالخلل بالشروط التعاقديّة، وصولاً إلى الجهات المالية التي صدقت العقود رغم معرفتها بالنقص في شروط التعاقد ، مضافاً إليها فساد المتعهدين المحليين المنفذين للاعمال المدنية و الإنشائية ….
و يؤكد شاهين أن ما ينطبق على مشاريع الصناعة ينطبق على مشاريع النفط والغاز و كذلك المشاريع الزراعية كسهل الغاب و المشروع الرائد في الرقة،يضاف إلى ذلك تستر بعض النقابات والجهات الرقابية و بعض الإدارات العليا في الحكومة على سلوك إدارات هذه المشاريع، كما رافق ذلك حملة شديدة عَلى بعض الفنيين ممن لم تتلوث أياديهم بالفساد من كوادر القطاع العام.
طبقة جديدة قوامها موظفون ومتعهدون
نتيجةً لكل ما سبق – يقول شاهين- نشأت طبقة جديدة في سوريا من كبار الفاسدين أصلها من موظفي و متعهدي القطاع العام سابقاً، هي التي قامت بدورها بتأسيس شركات و فتحت معامل و مشاريع و أصبحت شريكة أو وكيلة لشركات أجنبية، و أفسدت بعض الجيل الثاني من موظفي الدولة .
أما في القطاع الزراعي والنفطي و المصرفي فهي لم تكن أفضل حالاً، سرقت الشركات و تركت حطاماً و أصبح القائمين على إدارتها فيما بعد من أثرياء البلد .
ويشير معاون الوزير السابق إلى أن الوضع في المجالات الأخرى “حدث ولا حرج ” ،في مجال الإستيراد والتصدير كما في القطع الأجنبي و إجازات الإستيراد والإستثناءات وتغيير أو تعديل أحكام التجاره الخارجية ، وفي استيراد البذار و العلف و المبيدات و الأسمدة للفلاحين ، وكذلك استيراد الحبوب والطحين ، ولم يستثنِ الفساد الأدوية البشرية – ولاتزال عالقة في الأزهان قصة فساد معاونة وزير الصحة – ..والتلاعب بالمواصفات و تعزيز وفتح الإعتمادات .
جميع هذه الأمثلة عززت نشوء هذه الطبقة الفاسدة التي أثرت على حساب قوت الشعب و شوّهت سمعة سوريا في الخارج
و من المؤسف له أن هذا المسلسل لم يتوقف و لا يزال القطاع العام بقرة حلوب للكثير من الجشعين للثروة على حساب عرق العمال و قوت المواطن
لكن يختم بركات : بالرغم من موجة الفساد التي رافقت نشوء القطاع العام و مابعده ، فقد قابلها ولو بنسبة أقل استمرار شريحة من الشرفاء (الصناعيين و رجال الأعمال والمسؤولين والموظفين) الذين قاوموا كل أنواع المغريات وحافظوا على شرف المهنة و صانوا كرامة الوطن رغم تعرض بعضهم للطرد من وظائفهم والملاحقات القضائية.
المصدر: داماس بوست