الاصلاحية |
أصدر مركز دمشق للأبحاث والدراسات أمس العدد الثاني من سلسلة قضايا تنموية، تحت عنوان «سبل تحسين المعيشة في سورية بواسطة مقاربة من منظور مختلف»، أعدّه الباحث الاقتصادي الدكتور مدين علي، وهو عضو المجلس الاستشاري في رئاسة مجلس الوزراء.
مركز مداد | وتضمن التقرير تطبيق مجموعة من البدائل والإستراتيجيات، موزعاً على خمسة محاور أساسية شملت مفهوم تحسين سبل المعيشة، والمحددات العملية لإستراتيجية لتحسين سبل العيش، ومضامينها، إضافة إلى تحسين سبل العيش في سورية، والشروط الموضوعية للنهوض بالواقع الاقتصادي وتحسين سبل المعيشة.
وذكر التقرير أن عملية تحسين سبل المعيشة والارتقاء بنوعية حياة الناس، واقعياً، تخضع لتأثير مجموعة كبير من المحددات والعوامل، كما تواجه تحديات نوعية؛ كالانخفاض الشديد في معدل النمو الاقتصادي وضعف الإداء وانخفاض مستوى الإنتاجية والاختلال الفاضح والكبير في توزيع الدخل الوطني، وغياب العدالة الاجتماعية والعجز المالي الكبير وارتفاع نسب المديونية الداخلية والخارجية جراء التراجع الكبير في قدرة الدولة على تحصيل الموارد المالية والإيرادات الطبيعية، والتخلف التاريخي في منظومة علاقات الإنتاج التقنية من تخطيط وتنظيم وإشراف وتقييم وتقويم ومتابعة، وضعف المحتوى التقني والتكنولوجي للاقتصاد السوري، والعقوبات الاقتصادية الدولية التي كان لها دور كبير في استنزاف الكثير من مقدرات الدولة ومواردها في صفقات السوق السوداء والأسواق غير النظامية، واستفحال ظاهرة الفساد، واستنزاف الموارد والإمكانات الاقتصادية السورية جراء استمرار الحرب، والمشكلات الناجمة عن عمليات التهجير والنزوح والهجرة الداخلية والخارجية؛ وبقاء معظم آبار النفط والغاز خارج نطاق سيطرة الدولة السورية؛ وهجرة الكفاءات والأدمغة؛ وانخفاض سعر صرف الليرة السورية.
بدائل تحسين المعيشة على المدى القصير:
أورد التقرير مجموعة سياسات وخيارات لتحسين مستوى المعيشة في الأجل القصير في سورية تركزت على جوانب إدارة الطلب وتنشيطه، بوساطة مجموعة كبيرة من الإجراءات والسياسات، التي يتعين على الحكومة القيام بها، وتضمنت تشجيع الصناعات الحرفية والمشاريع المتوسطة والصغيرة والمتناهية في الصغر وتحفيز ورشات العمل المهنية والحرفية، وذلك عن طريق التدريب والتأهيل وتقديم التمويل اللازم، والدعم اللوجستي الضروري لها، وتنشيط وتحفيز المدارس المهنية والحرفية والصناعية، وهذا يتطلب إعادة النظر بهيكل العملية التربوية والتعليمية، لجهة التركيز على تطوير وتنشيط التخصصات العلمية والمدارس المهنية والحرفية، ذات الصلة المباشرة بسوق العمل، وتوجيه الطلبة نحوها، كمدخل لإعداد الكوادر البشرية والمهنية التي باتت السوق تعاني ندرة نسبية فيها، ما يساعد في تشكيل رافعة للخروج من المأزق الاقتصادي.
إضافة إلى البدء بتطبيق سياسة مالية ونقدية توسعية (عن طريق تفعيل استخدام أدوات السياسة النقدية والمالية) بصورة تدريجية، وفق خطا غير متسرعة، مبنية على أسس مدروسة بعناية فائقة، كي لا تنعكس مفاعيلها بصورة سلبية على شروط ومتطلبات التوازن الاقتصادي العام، ومن ثم على شروط ومتطلبات التوازن في مختلف الموازين الاقتصادية المالية والسلعية.
وفي هذا الإطار لا بد من التوضيح أن الحكومة السورية، كانت قد اتجهت طوال السنوات الثلاث الأخيرة نحو تطبيق سياسة نقدية ومالية انكماشية، لكبح جماح التضخم، تندرج في الواقع في نطاق الضرورة التاريخية (التي لابد منها)، والتي ما تزال مبرراتها مستمرة إلى حدٍّ ما.
وذكر التقرير أن معدل نمو النقد المتداول، كان قد شهد تراجعاً ملحوظاً طوال سنوات (2012- 2016) بنسبة تجاوزت حدود الـ(12 بالمئة) فقط، في الوقت الذي كان فيه الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي يتراجع بصورة دراماتيكية، حيث تراجع من (60.2) مليار دولار قبل الحرب إلى (26.4) مليار عام (2016) أي إنه تراجع بمعدل سالب مقداره (56.1%) ما يعني اتساع الفجوة بين العرض النقدي والعرض المتاح من السلع والخدمات، ما أدى بدوره إلى ارتفاع معدل التضخم والمستوى العام للأسعار، إلى حدود قياسية كبيرة، انعكست مفاعيلها بصورة سلبية على مستوى المعيشة ونوعية الحياة، جراء تراجع القوة الشرائية للدخول والمرتبات، إلا أن السياسة الانكماشية التي نفذتها الدولة كان لها دور كبير في المحافظة على ظروف اقتصادية حالت دون حصول مجاعات حقيقية، لا بل أسهمت في تراجع محدود وطفيف في المستوى العام للأسعار، لم يؤثر بصورة ملحوظة في حجم الفجوة الكبيرة جداً بين الدخل والاستهلاك، كما أنه لم يؤد في الوقت ذاته إلى تغير إيجابي ملحوظ، في درجة أو مستوى التمكين الاقتصادي لشرائح الفقراء والمهمشين، والمهددين غذائياً.
وحسب التقرير، فإن ما يجب أن يُؤخذ بالحسبان هو أن التوجه نحو تنفيذ سياسة نقدية ومالية توسعية فعّالة ومؤثرة، كرافعة لتحسين مستوى المعيشة، وتحسين سبل العيش، يحتاج عملياً إلى توافر مجموعة من الشروط والمتطلبات، غير متوافرة في حالة الاقتصاد السوري، منها قوة وحزم لتحرير السوق من قبضة القوى الاقتصادية غير النظامية، التي باتت تمتلك مقدرات اقتصادية مهمة، ولديها قدرة كبيرة على التحكم والتلاعب بالسوق، ما يجعل فاعلية السياسات النقدية والمالية، ضعيفة التأثير أو المردود التنموي، تحديداً لجهة ما يتعلق بتحسين نوعية الحياة وسبل العيش، إضافة إلى القضاء على مختلف أشكال الأسواق السوداء والأسواق غير النظامية.
وفي إطار الإجراءات والسياسات المطلوبة، لتطبيق سياسة مالية ونقدية توسعية، كرافعة لتحسين سبل العيش، يمكن القيام بتخفيض أسعار الفائدة الدائنة والمدينة، بغية تحفيز الاستثمار، وتشجيع الطلب، وتخفيض أسعار الخصم للسندات والكمبيالات والأوراق التجارية، وفتح باب الإقراض والتمويل المصرفي، لذوي الدخل المحدود، وللراغبين في الاستثمار في المشاريع الإنتاجية، بضمانات حقيقية وبموجب عمليات مصرفية جديدة، محوكمة ومطابقة للمعايير الدولية.
إضافة إلى إعادة النظر بالسقوف الاحتياطية للمصارف العاملة في سورية، بعد إجراء دراسات علمية دقيقة لبنية الودائع، وحجم التوظيفات المالية في القطاع المصرفي، وإعادة النظرِ بواقعِ النظامِ الضريبيِّ (إصلاحاً وتطويراً) بالسرعةِ القصوى، وبنائه على أسس حديثة، متطورة ومعاصرة، يمكن أن تساعد في إعادة توزيع الدخل والثروة، وتحميل غرمها وأعبائها، على قواعد تساعد في تحقيق مبدأ تكافؤ الفرص وترسخ العدالة بين مختلف عناصر العملية الإنتاجية، ومن ثم مختلف شرائح ومكونات المجتمع، وأقاليم الدولة السورية التنموية من دون تمييز.
وأضاف التقرير مجموعة من البدائل لتحسين سبل العيش، منها التركيز بصورة مكثفة على عملية تطوير القطاع الزراعي وتنشيطه، تحديداً سلع الإنتاج الزراعي ذات الطابع الإستراتيجي التي تتعلق بتوفير شروط الأمن الغذائي ومتطلباته كالقمح والزيتون والبطاطا والحبوب، إضافة إلى تحفيز الصناعات الزراعية (التي تعتمد في مدخلاتها على مخرجات القطاع الزراعي)، مع إيلاء أهمية وتركيز كبيرين لقطاع التقانة والتكنولوجيا.
إضافة إلى تقييد الاستيراد بما يساعد في حماية الإنتاج المحلي الزراعي والصناعي (الذي يعاني تحديات كبيرة) ويساعد في تأمين متطلبات تطويره ومواصلة نموه بصورة مستقرة على أسس متينة ومُستدامة، ومصادرة الدولة للثروات والأموال التي تشكلت بصورة مشبوهة، تحديداً تلك التي تشكلت بسبب تجاوز شروط العدالة الاجتماعية ومبدأ تكافؤ الفرص، واستغلت النفوذ والواقع، وجيرت المعطيات والمتغيرات، لأغراض ومنافع شخصية وخاصّة، على حساب النفع العام والمصلحة العامة، وإعادة ضخ هذه الأموال في شرايين الاقتصاد، عن طريق تمويل المشاريع الحرفية والصناعية والزراعية الصغيرة والمتوسطة والمتناهية الصغر.
ومن البدائل أيضاً تنفيذ حملة ممنهجة ومكثفة، بصورة مستمرة ومتواصلة، لضرب بنى الفساد، وتفكيك شبكاته والقضاء على تحالفاته، وتنفيذ ملاحقة مدنية وجزائية للفاسدين الذين استباحوا المال العام وجيروا المواقع والمناصب العامة في سورية لأغراض خاصة، والاستيلاء على أملاكهم وثرواتهم وإعادة ضخها في شرايين الاقتصاد لتمويل المشاريع والبنى، تحديداً المشاريع ذات الصلة بجرحى الحرب والمعوقين وأبناء الشهداء.
إضافة إلى تحرير السوق وكسر حالة الاحتكار، إذ إن مسألة كسر الحالة الاحتكارية، وتفكيك البنية الاحتكارية في سورية، باتت من الناحية العملية، مسألة جوهرية لعملية التنمية التي لا يمكن أن تتم بصورة تمتلك شروط الاستدامة والاستقرار، وتؤسس لتراكم يمكن أن يعزز متانة البنية الاقتصادية والاجتماعية بصورة مستدامة إلا بوساطة ترسيخ أسس وشروط العدالة، ومبادئ تكافؤ الفرص، وغير ذلك من الشروط التي لا يمكن تجاوزها، أو القفز فوقها في عملية رسم المسار الموضوعي، والتخطيط الإستراتيجي، لعملية تحسين مستوى المعيشة، وضمان سبل العيش الكريم للمجتمع السوري إذ إن الاحتكار بكل ما ينطوي عليه من منعكسات وتداعيات يشكل تهديداً حقيقياً لفرص التنمية العادلة.
ومن البدائل أيضاً ضبط الأسعار والحيلولة دون ارتفاع معدلات التضخم، إذ إن عملية ضبط الأسعار، والحيلولة دون ارتفاع معدلات التضخم، تعد عملية أساسية ومهمة للحفاظ على القوة الشرائية للنقد، ومن ثم الحفاظ على القوة الشرائية للدخول والمرتبات، الأمر الذي يمكن أن يساعد في الحفاظ على مستوى المعيشة، وخلق الشروط الموضوعية لتحسينه، أو على الأقل يساعد جعل أي زيادة في مستوى الرواتب والأجور زيادة حقيقية.
إضافة إلى زيادة الرواتب والأجور، إذ يمكن أن يشكل مدخل زيادة الرواتب والأجور في سورية مقاربة عملية لتحسين مستوى المعيشة، يستفيد منها المجتمع بكل شرائحه ومكوناته، سواء أكان عاملاً في الدولة، أم لا يعمل بها، ذلك جراء الإسهام الكبير الذي يمكن أن يولده التأثير المضاعف لزيادة كتلة الرواتب والأجور في حجم الطلب الكلي، الأمر الذي سينعكس بصورة إيجابية على إمكانات تحسين مستوى نوعية الحياة وسبل العيش، إلا أن ذلك يتطلب في الواقع توافر مجموعة من الشروط الموضوعية، كي تكون الزيادة حقيقية وفاعلة، ومن ثم ذات مردود واضح، لجهة ما يتعلق بتحسين فرص العيش ومستوى المعيشة، منها وجود مرونة كافية في عرض الجهاز الإنتاجي المحلي تلبي تطورات الطلب المحتملة، وضبط الأسعار والحيلولة دون ارتفاع معدل التضخم، وقدرة الدولة على ضبط السوق، تحديداً لجهة ما يتعلق بإمكانية قمع التهريب، أو الحد منه، الذي من المحتمل، بل من المؤكد أنه سينشط جراء ضعف مرونة عرض الجهاز الإنتاجي، وعدم قدرته على مواجهة استحقاقات الطلب الكلي هذا من جهة، وعدم توافر الظروف التي تساعد في عملية الضرب بقوة على أيدي المتلاعبين بالموارد والمقدرات من جهة أخرى.
خيارات تحسين المعيشة في الأجل الطويل
استعرض التقرير مجموعة خيارات وبدائل على المدى الطويل، وهي البدائل التي تركز على جوانب إدارة وتنشيط العرض، بوساطة تحفيز الإنتاج الوطني وتحديداً الإنتاج الزراعي والصناعات الزراعية، ذلك استناداً إلى مجموعة من الإجراءات والسياسات منها إعادة النظر بإستراتيجيات التنمية ورهاناتها، تحديداً لجهة ما يتعلق بأولوية قطاعات الأمن الاقتصادي التي يجب أن تنطلق من ثلاثة محاور أساسية (محور قطاع الزراعة والأمن الغذائي- محور قطاع الصناعة والصناعات الزراعية ذات الطابع أو المحتوى الإستراتيجي- محور التكنيك والتقانة والتكنولوجيا).
ومن الخيارات أيضاً إعادة النظر في جغرافيا التنمية والإنماء، وذلك لجهة تحقيق التوزيع العادل للموارد والإمكانات بين مختلف المناطق والأقاليم التنموية، ما يساعد في الحدّ من فجوة الفقر بين الأقاليم وتضييقها إلى أدنى الحدود هذا من جهة، وبما يساعد على الحدّ من حركات الهجرة والنزوح الداخلية من جهة أخرى.
إضافة إلى إعادة النظر في إستراتيجيات التربية والتعليم، إذ لابد من إعادة النظر في إستراتيجية التربية والتعليم في الأجل المتوسط والطويل في سورية، لجهة جعل مخرجات العملية التربوية والتعليمية أكثر تكيفاً واستجابة لخصائص سوق العمل السورية ومتطلباته، التي باتت تعاني نقصاً كمياً ونوعياً كبيرين في حجم القوة العاملة المهنية والحرفية، إلى جانب التركيز على مسألة توطين الكفاءات وتحفيزها والحد من هجرتها، ذلك بوساطة زيادة مستوى الأجور والمرتبات ورفع مستوى التعويضات للخبرات والكفاءات العلمية وأعضاء الهيئات التدريسية، وابتكار سياسات خلاقة لتوطين التقانة والتكنولوجيا وخلق البيئات والحواضن التكنولوجية اللازمة.
ومن الخيارات أيضاً خلق بيئة اقتصادية محوكمة تساعد في تعزيز أسس ومتطلبات الشفافية المطلوبة لتحسين بيئة الأعمال ومناخ الاستثمار، وتحسين أداء السوق، وإعداد سياسة سكانية متوازنة، إذ إن تحسين مستوى المعيشة يرتبط على المستوى البعيد إلى حد كبير بإمكانية تنفيذ عناصر سياسة سكانية متوازنة، تأخذ بالحسبان إمكانات المواءَمة بين احتياجات ومتطلبات النمو السكاني والقدرة على تأمين الموارد والإمكانات بصورة مُستدامة ومتواصلة.
المصدر : مركز مداد + وسائل إعلام ومواقع محلية
Post Views:
0