الاصلاحية | خاص |
د. رشا سيروب | منذ بداية الحرب في سورية وما رافقها من دمار اقتصادي وعقوبات دولية وتدمير البنية التحتية وغيرها من بروز سمات اقتصاد الحرب على بنى الإنتاج والإنفاق ومصادر تشكل الدخل، ورغم بعض الإجراءات التصحيحة لتقليص الفجوة بين الدخل والإنفاق أقرّت الدولة عدة تعديلات من خلال زيادة الرواتب والأجور ورفع الحد الأدنى المعفى من الضريبة وزيادة غلاء معيشة، إلا أن هذه الزيادات لم تتماشى مع الارتفاع القياسي في معدلات التضخم خلال تلك الفترة أفضى إلى انخفاض حاد في مستوى الأجر الفعلي، حيث بين الرقم القياسي لأسعار المستهلك الصادر عن المكتب المركزي للإحصاء (الذي يعطي صورة إجمالية عن تطور أسعار السلع والخدمات المستهلكة من قبل الأسر السورية) أن معدل التضخم تجاوز 850% مقارنة مع سنة الأساس عام 2010 وأن الرقم القياسي لأسعار بعض السلع والخدمات وصل إلى 1700%، وبهذا نجد أن أسعار السلع تزداد وفقاً لمتوالية هندسية بفائدة مركبة، أما نمو الأجور فإنه يزداد وفقاً لمعدل الفائدة البسيطة المحددة قانوناً.
هل تجميد الرواتب ينسجم مع الدستور السوري؟
وأثير جدلاً ونقاشاً واسعاً على صفحات وسائل التواصل الاجتماعي وفي أماكن العمل والمقاهي وفي النقاشات اليومية وعند كل عملية تسوق يومية قبل صدور موازنة 2018 ولغاية اليوم حول انخفاض الرواتب والأجور لموظفي القطاع العام، وحول الردود الحكومية الرسمية سواء من السيد رئيس مجلس الوزراء أو السادة الوزراء ذوي الحقائب غير الاقتصادية والاقتصادية ومفاده أن أولوية الحكومة هو تدوير عجلة الإنتاج وتحسين المستوى المعاشي بطرق أخرى غير زيادة الرواتب، مع التنويه بأن زيادة الرواتب في هذه الظروف ستؤدي إلى التضخم، والتأكيد على عدم وجود موارد مالية كافية لتمويل الزيادات في حال أُقرت مع التذكير بحجم الدعم المقدم من قبل الحكومة؛ وكل ذلك ترافق مع عجز أو فشل أو عدم قدرة “من يمثلنا” في إلزام الحكومة (السلطة التنفيذية) بتعديل الرواتب طبقاً لانخفاض القدرة الشرائية وبما يضمن متطلبات الحياة المعيشية وانسجاماً مع ما ورد في الدستور (لكل عامل أجر عادل حسب نوعية العمل ومردوده، على أن ألا يقل عن الحد الأدنى للأجور الذي يضمن متطلبات الحياة المعيشية وتغيرها).
هل فكرت حكومتنا بتداعيات انخفاض الرواتب؟
وعلى الرغم من أن جميع الدراسات والأبحاث العلمية والميدانية والأكاديمية أكدت على تدهور المستوى المعاشي للمواطن واندثار الطبقة الوسطى وازدياد عدد الفقراء الذي يعيشون تحت خط الفقر الأدنى، ودراسات أخرى أوضحت أن انخفاض الرواتب والأجور يؤدي إلى تراجع الخدمات العامة من صحة وتعليم ونقل وتشكل بيئة خصبة لازدياد الفساد مما ينعكس على تماسك المجتمع واستقرار الاقتصاد، وبينت دراسات استقصائية بأن متطلبات الحياة المعيشية يتجاوز 200 ألف ليرة سورية شهرياً كحد أدنى لأسرة سورية مكونة من 5 أفراد، وجميع هذه الدراسات على اختلافها وصلت إلى نتيجة واحدة مفادها أن زيادة الرواتب والأجور أصبح ضرورة ملحة لا يجوز إغفالها أو إرجاءها. لماذا لا يتم الأخذ بمخرجات هذه الأبحاث وربطها مع مؤسسات الدولة بما يحقق الترجمة العملية لهذا الربط؟.
من قال أن الرواتب والأجور هي السبب الوحيد لنقص الموارد المالية؟
وبالعودة إلى عنوان المقال ورداً على المبررات الرسمية بأنه لا يمكن زيادة الرواتب والأجور قبل تدوير عجلة الإنتاج درءاً للأعباء المالية على خزانة الدولة، نتساءل ما هي الدراسات الاقتصادية والأسس العلمية التي استندت إليها الحكومة في تحديد العلاقة بين زيادة الرواتب والأجور وبين التضخم؟ وهل تم إجراء دراسة فعلية توضح أسباب التضخم أو تشرح أسباب عجز الموازنة العامة للدولة؟ هل كتلة الرواتب والأجور هي السبب الوحيد أو المساهم الأساسي لنقص الموارد المالية؟ ألم يسهم التهرب الضريبي والإعفاءات والتسهيلات الضريبية والجمركية (من أجل تحقيق النمو الاقتصادي لخلق فرص العمل) في نقص الموارد العامة للدولة؟ مع العلم أن هذه الإعفاءات لم تحقق سوى المكاسب لأصحابها على حساب المصلحة العامة؛ ألم يسهم انتشار الفساد في هدر وضياع الموارد العامة للدولة؟.
من الأولى التقشف في عدد الوزارات والهيئات العامة بدلاً من رواتب الموظفين..
وباعتبار أن الدولة تمر بظروف حرجة أدت إلى زيادة عجز الموازنة، فمن واجب كل واحد منا المشاركة في تحمل الأعباء، وإذا كان لابد من التقشف فمن الأولى التقشف في عدد الوزارات والهيئات العامة، وتخفيض مكافآت وحوافز السادة أعضاء مجلس الشعب وكذلك السادة الوزراء ومعاونيهم والمدراء العامين، وزيادة الضرائب على الشركات وفرض ضريبة تركز وتراكم الثروة كخطوة أولى لمواجهة اللامساوة ولتحقيق العدالة في توزيع الدخل (التي هي من صلب هدف السياسة المالية)؛ لكن بدلاً من ذلك أثقلت الإدارة الاقتصادية –وعلى وجه الخصوص وزارة المالية- كاهل عنصر العمل بالمزيد من الأعباء من خلال زيادة الرسوم والضرائب غير المباشرة، وتحول العامل إلى كبش فداء المرحلة. والمجتمع الذي يفرط في تحميل عنصر العمل أعباء لا قدرة له على تحملها يجب أن يأخذ بعين الاعتبار انهيار روح التكافل بين أبناء المجتمع وفي تمزيق وحدة هذا المجتمع.
جربنا دعم رأس المال لماذا لا نجرب دعم رأس المال البشري؟
ولضمان سلامة الاقتصاد وأمن المجتمع أضحت إعادة توزيع الدخل من رأس المال إلى العمل ومن الشرائح الأكثر غنىً إلى الشرائح الأكثر فقراً أمراً لا مناص عنه، خاصة وأن سورية تعاني من استنزاف كبير لمواردها البشرية، في العصر الميركانتلي كانت قوة الدولة تتحدد بما تمتلكه من ثروة (كانت آنذاك الذهب والفضة) لكن في القرن الواحد العشرين أصبحت الثروات البشرية مقياس تقدم الدول، وتتحدد قوة الدولة بما تمتلكه من ثروة بشرية، وهذا يتطلب تحسين المستوى المعاشي والحفاظ عليها وصون كرامتها وضمان العمل اللائق لها، ومن دون الحفاظ على الكوادر الجيدة والمؤهلة لا يمكن بناء دولة قوية؛ وبما أننا جربنا دعم وتعزيز عنصر رأس المال قبل الحرب وأثناءها ورأينا نتائجه لماذا لا نجرب دعم وتعزيز عنصر العمل؟ ولماذا لا يتم التعامل مع العمالة على أنها ثروة موارد بشرية وليست تكلفة مادية.
لتحقق الحكومة هدفها في دوران عجلة الانتاج لا بد من زيادة الرواتب..
بما أن الاقتصاد السوري يعتمد على الإنفاق الاستهلاكي للشعب بما يقارب 60% من الناتج المحلي الإجمالي ومن أجل تحقيق هدف الحكومة في تدوير عجلة الإنتاج، إذاً فإن الحاجة ملحة لتحسين القوة الشرائية لشريحة واسعة، ذلك لتحفيز الطلب الفعال، وستؤدي الضغوط المتزايدة على الأجور إلى قصور القوة الشرائية، وعلى الرغم من تراجع دور الدولة في التعيين إلا أنها تبقى أكبر مشغل للعمالة، حيث يشكل العاملين في القطاع العام أكثر من 60% من إجمالي العاملين بأجر في سورية، أي إنهم يشكلون الشريحة التي يمكن الاعتماد عليها في إنعاش الطلب على السلع المحلية والمحرك لتدوير عجلة الإنتاج.
ولا يمكن الركون بأن زيادة الرواتب والأجور ستؤدي إلى التضخم نتيجة ازدياد الطلب لعدة أسباب، أولاً رغم استقرار سعر الصرف وعدم زيادة الرواتب والأجور إلا أن الاتجاه العام للتضخم ما زال متصاعداً بقوة، ثانياً زيادة الرواتب والأجور في القطاع العام هي تكلفة على القطاع العام وليس على القطاع الخاص، ثالثاً رغم أن الهيكل الإنتاجي غير مرن، إلا أنه نتيجة التطورات الحاصلة عسكرياً وتحرير الطرق الدولية فإن مرونته الحالية قادرة على تلبية الطلب المتزايد على السلع والمنتجات المحلية. لذا فالخشية من ارتفاع معدلات التضخم لا يجب نسبه أبداً إلى زيادة رواتب وأجور القطاع العام، ومن أجل تحسين القدرة الشرائية لا بد من اتخاذ سياسات اقتصادية تحد من مستوردات السلع الاستهلاكية وتدعم دورة الإنتاج السلعي المحلي على أن يترافق ذلك بوجود رقابة فعالة من قبل وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك لثني النخب عن الاستئثار بالسوق والاحتكار وضبط الأسعار.
لكن ما زالت السياسات الاقتصادية في سورية تعمل في سياق المعتاد والمضمون والمألوف، فهي ما زالت تعتمد على زيادة الرسوم والضرائب غير المباشرة التي يدفعها المواطن الغني والفقير على السواء وعدم تعديل النظام الضريبي ليصبح أكثر عدالة والاستقواء على العامل بعدم زيادة راتبه. ووفق التجارب التاريخية فإن المجتمعات التي تسمح لشرائح الدخول العليا بمواصلة الارتفاع وتترك فئات المجتمع الموجودة في أدنى السلم الاجتماعي تزداد فقراً من يوم إلى آخر تصبح أكثر مدعاة للتوترات الاجتماعية.
لقد تميزت هذه الفترة بانخفاض الدخل الحقيقي للعاملين بأجر وارتفاع العبء الضريبي، مقابل زيادة تركز الثروة وانخفاض العبء الضريبي لدى شريحة معينة. وهناك ارتباط واضح بين ارتفاع نسبة الضرائب المستوفاة من العاملين بأجر وانخفاض نسبة الضرائب المستوفاة من أرباح الشركات وأصحاب الثروات، ولولا الإعفاء الضريبي المستمر لهذه الفئة (على أمل زيادة الاستثمار في الداخل) لحققت الإيرادات العامة للدولة زيادة يمكن من خلالها تغطية العجز. لكن هذه الفئات أول من خرج من سورية وبذلك استفادت من الإعفاءات دون أن نستفيد من حجم استثماراتها.
أين الحكومة من إدارة الصراع على توزيع الموارد؟
لا أحد ينكر ما أثارته الحرب من تكاليف مرتفعة وفوضى اقتصادية، لكن من أجل الحد من الآثار السلبية يجب على الحكومة أن تلعب دوراً جديداً وهو (إدارة الصراع على توزيع الموارد) وهذا يتطلب وجود مؤسسات قوية على درجة عالية من الكفاءة والإدارة والتنظيم، ولا يمكن تحقيق ذلك في ظل الرواتب الحالية وانخفاض الدخل الحقيقي، فكلما انخفضت الرواتب والأجور يزداد الفساد ويتراجع مستوى أداء الخدمات العامة ونوعيتها نتيجة انخفاض إنتاجيته، حيث لم يتجاوز دخل موظف القطاع العام من الفئة الأولى وسطياً 1200 ل. س يومياً، وعلى اعتبار أن العمل وسيلة الإنسان لكي يؤمن لنفسه وسائل العيش الضرورية من مأكل ومشرب ومسكن وكي تصبح حياته أفضل، فإن الموظف قد يضطر إلى العمل 12-15 ساعة يومياً في أكثر من مكان عمل واحد بما لا يتلاءم مع موقعه الوظيفي أو شهادته العلمية أو مؤهلاته كي يعيش، هل أصبحت حياته أفضل؟ وما هي الآثار السلبية الاجتماعية الناجمة عن تواجد رب الأسرة أو الأم او كلاهما خارج المنزل ساعات طويلة؟؟ مع تحسين مستوى الدخول في القطاع العام فإن الحكومة لن تلقَ مقاومة للسياسات والقرارات التي تصدرها مما يساعدها على تنفيذ أهدافها في التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
وإن كانت الحكومة لا ترغب بزيادة الرواتب لماذا لا تقوم بتعديل نظام المكافآت والحوافز بحيث لا يحصل عليها إلا من يعمل بجهد، وتطبيق العدالة في التقييم ومساءلة ومحاسبة من لا يعمل.
أخيراً وليس آخراً | إن مشكلة الأجور تدهور الرواتب والأجور في القطاع العام أصبحت تخيم على المجتمع وتتصاعد حدتها وتحتاج إلى علاج جذري، وأي مقاربة للنهوض بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية لا يمكنها المضي في ممارسة التجاهل حيال هذا الواقع المنتج لعدم الاستقرار في المدى المتوسط والبعيد. وتقتضي مسارات المعالجة التعامل مع الرواتب والأجور على اعتبارها من سياسات الحماية الاجتماعية ومن أدوات استقطاب الموارد البشرية والحافظ عليها، ولذلك لابد من ابتكار آليات اقتصادية جديدة تستطيع خلق توازن بين الدخل والإنفاق، وهذا يتطلب ضرورة القيام بعدة إجراءات على نفس المسار: الالتزام بنظام تعديل الأجور وفقاً لمتطلبات المعيشة وتغيرها، ضبط ومراقبة أسعار السلع والخدمات، منع الاحتكار والتشجيع على المنافسة، حماية الفئات الفقيرة والمتوسطة من الطبقة العاملة، وتطبيق نظام ضريبي أكثر عدالة ويميل لصالح رأس المال البشري.
الدكتورة رشا سيروب “أكاديمية وباحثة اقتصادية”
الاصلاحية | صار وقتا..
Post Views:
0