الاصلاحية | آثار جانبية |
70 في المئة من «داعش» و«النصرة» من السوريين، ما هي دقّة الرقم بعد بدء الحرب؟ لسنا على يقين، فالأسرار تحيط بـ «الدولة» كما بـ«الجبهة» ولكن لنفترضه صحيحاً، ألا يقودنا هذا إلى سؤال: كيف التحقت هذه النسبة بالتنظيمين؟
السوريون ليسوا ليبراليين ولا علمانيين، السوريون متجاورون. الروك أند رول بجوار الربابة، عبدة الشيطان إلى جوار الإبراهيميين، المسجد بجوار الخمّارة، سوريا هكذا وإن طفت رايات «أمة عربية واحدة، ذات رسالة خالدة» فوق مباني اتحادات العمال وجمعيات الفلاحين ومكاتب حزب البعث وقد خلع رداء «الحرس القومي» وتحوّل إلى المرسيدس والـ«لاكزس». وسنعيد السؤال: كيف أصبح لـ«داعش» و«النصرة» من السوريين نسبة؟ أية نسبة لا يهم، يسأل أحد الكتّاب بغضب متأثراً بالانتكاسة التي منيت بها الدولة السورية في بعض مناطق الشمال السوري.
سؤال الكاتب ستلاقيه الإجابة في منتصف الطريق، إجابة للسيدة أميرة حويجة، العضو السابق في حزب العمل الشيوعي والسجينة على ذمته ما بين 1987 و1991. تقول لنا بعد أن عادت بنا إلى عام 1991 لتروي التالي: «شيء ما كان يزعجني، في تلك الفترة (1991)، كنت أتابع المنتديات التي كانت تعتبر تجربة جديدة في سوريا مع بداية ربيع دمشق، كنت أتابع منتدى رياض سيف، كما كنت أذهب لحضور منتدى محاضرات الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، وهنا كانت المفاجأة، ذهبنا إلى منتدى البوطي في إحدى المرّات ولم نجد مكاناً نجلس فيه بدءاً من الصالة وصولاً إلى الباحة، والمفارقة الأكبر، أن كل الحضور كانوا من الشباب، وكان سؤالي في ذلك الوقت: لماذا هؤلاء الشباب للبوطي وليسوا لنا»؟ السؤال نفسه أعدتُ طرحه على السيّدة أميرة فكان جوابها: «لا أستطيع الإجابة ببساطة، ولكن أستطيع القول أنه أصبح هناك مدّ ديني في البلد لم نكن نحسب له». متى بدأ هذا المدّ الديني وكيف انتشر في دولة تُوصف بالعلمانية؟
في آذار عام 2010، كان من المقرر عقد مؤتمر للعلمانيين العرب في دمشق، ومن الأسماء التي كانت ستشارك في المؤتمر، شخصيات من مثل صادق جلال العظم من سوريا، ورجاء بن سلامة من تونس، ورشيد الخيون من العراق، وبيناز توبراك وطالب كوشوكان من تركيا، إلا أن السلطة ألغت المؤتمر قبل أن يعقد.
كانت السلطة آنذاك تعني رياض نعسان آغا، وزير الثقافة المصاب بعقد ليس حدّها الأدنى انحيازه إلى الدينيين، وقد وصل به الأمر ذات يوم أن يمنع فرقة «باليه» من تقديم عرض راقص في دار الأوبرا في دمشق، لأن بنات «الباليه» لا يرتدين الملابس الشرعية. شقيقه (الشرعي) يومها رئيس جامعة دمشق، أبلغ منظمي مؤتمر العلمانيين بسحب موافقتهم على استضافة المؤتمر بحجة أن عطلاً تقنياً قد أصاب أجهزة الصوت.
على رغم أن رئاسة جامعة دمشق ووزارة الثقافة كانتا على علم مسبق بجميع تفاصيل هذا النشاط الثقافي فقد منعته، وهي ذاتها التي كانت أعلنت موافقتها على الاستضافة، وعندما حاول المنظّمون استبدال مكان انعقاد المؤتمر، والاستفادة من الشخصيات القادمة من خارج سوريا، أوصى نعسان آغا بعدم إقامة المؤتمر في أي مكان عام وعلى توقيف الدعوة العامة بجميع أشكالها بما فيها الإعلان عن نقل المكان، ولاحقاً تحوّل مؤتمر العلمانيين العرب إلى ورشة صغيرة وعلى نطاق خاص في المعهد الدنماركي حضرها 40 شخصاً.
هذا ما كان من أمر وزارة الثقافة وجامعة دمشق في 2010، أما دار الأوبرا في 2018، فقد تحولت من مؤسسة ثقافية إلى «مول» تجاري غاب عنه حضور القيمة الفنية لمصلحة العائد المادي، فلماذا ستفتح الدار صالتها لفيلم إذا لم يكن هناك إيراد مالي على حد قول أحد المعنيين في الدار؟
هذا السؤال هو نفسه الذي دفع أحد نقّاد المسرح إلى اعتكاف الدخول إلى الدار أخيراً بعدما تحولت كما رأى إلى كازينو تحيي الحفلات لأسماء مغمورة تدفع مالاً، وتهتم بتخريج طلاب المدارس الخاصة الذين يدفعون مالاً أيضاً. هو السؤال نفسه الذي أحال فيلم «هؤلاء» لفاديا محمود وادوارد ميّا، ليعرض وكما حال مؤتمر العلمانيين في عام 2010، على نطاق ضيّق في كنيسة الرب (كنيسة السيدة برعاية من الأب الياس زحلاوي)، حضره 50 شخصاً من المقرّبين والأصدقاء بدلاً من دار الأوبرا. فيلم قيل عنه إنه خطوة استباقية على صعيد التوثيق لما جرى خلال الحرب في وقتٍ ما زالت القوى المتصارعة على الأرض السورية مشغولة بالفعل ورد الفعل. فيلم أظهر ببراعة من الذي عزم الخوف وفتح له البوابة كي يدخل البلد ما قبل الأزمة، وأظهر ببراعة أيضاً ضيوف وليمة الخوف هذه ما بعد الأزمة. ضيوف معظمهم شباب سوريين كان يمكن أن يكونوا من روّاد دار الأوبرا لكنهم التحقوا عوضاً عن ذلك بابن تيمية وسيد قطب وأبو بكر ناجي (مؤلف كتاب «إدارة التوحش»).
هذه هي الحال، اتسع مسرح الأوبرا لمطربين أمثال ريبال الهادي لكنه لم يتسع لفيلم يوثّق مجازر الفصائل المسلحة في كل من ريف اللاذقية، ومعلولا، وأحياء شرق حلب، وكفريا والفوعة، مع العلم أن دار الأوبرا تلقت ومنذ عام 2012 قذائف هذه الفصائل بالجملة، وآخر ضحاياها كانت مديرة البرامج في دار الأسد للثقافة والفنون لمى فلوح. ومع العلم أيضاً أن المدير العام لدار الأسد للثقافة جوان قره جولي قال في تصريح له عند توليه إدارة الدار: «من استشهد مات كي نبقى على قيد الحياة ولكي تبقى المسارح مفتوحة، لم يستشهدوا كي تغلق المسارح». الوقائع اليوم تقول إن المسارح أغلقت إلا لمن يدفع أو يستجدي الدار أو يأتي باستثناء.
ربما هي الصدفة أن يربط ضيوف فيلم «هؤلاء» مدخلات الأزمة مع مخرجاتها لنصل في نهاية الفيلم إلى السؤال الذي طرحته أميرة حويجة على نفسها في عام 1991 ولنعود مجدداً إلى السؤال ذاته: لماذا هؤلاء الشباب كانوا للبوطي وليسوا لنا؟ لماذا هؤلاء الشباب أصبحوا اليوم للمعركة ولم يكونوا للموسيقى؟ لماذا ابتسموا للأشلاء ولم يبتسموا لصبية ترقص «الباليه»؟ كيف حوّل هؤلاء ليلة القدر إلى مناسبة لاقتحام ثمانية قرى في ريف اللاذقية أضحت بعد ساعة من اقتحامها مقبرة نجا منها عدة نساء وطفلة انحنى ظهر طفولتها أمام هول ما رأت ورجال ناموا بثيابهم إلى الأبد بعدما سقطوا كما الورق اليابس؟
الطيب تيزيني أجاب عبر الفيلم: «أضربوا في الماضي، في الأساس، أزيلوا الفقر»، الأب زحلاوي ترجى العودة إلى «الأسباب القديمة الموجودة فينا والدخيلة الجديدة علينا والتي أوصلتنا إلى هنا».
قدّمت دار الأوبرا في عام 2008 عرض «باليه» بحيرة البجع لبيتر تشايكوفيسكي. بحيرة البجع، وهي إحدى روائع الموسيقى العالمية، تفسح المجال اليوم لسؤال إلى المسؤولين عن الدار، سؤال من نوع: هل يعقل أنه بعد سبع سنوات من الحرب ليس هناك لجنة في الدار تختص بتقييم الأفلام والعروض ومن ثم منحها الفرصة التي تستحقها فعلاً للعرض بعيداً عن معيار الدفع المسبق الذي تتبعه الدار حالياً في قبولها لأي عرض أو حفلة والذي قد تتحول مع دوام حاله إلى تاجر شنطة؟
هذه هي الحال… حين تغلقون دار الأوبرا، لا بد من افتتاح الصومعة، وبعدها سيكون «هؤلاء».
سناء ابراهيم | الأخبار
Post Views:
0