الاصلاحية | ثقافة | خاص |
في العنونة : باعتبار العنوان أوّل فخاخِ النّصّ، وأوّل انتباهة للدّال في رحلة الدّوال واغترابها ، لذلك يجب عدم الاستهانة بدوره الخطير في عمليّة الجذب الأوّلي أو النّفور.
أوس أحمد أسعد || وهذا ما وعاه الأديب ” نذير جعفر” بحسّه النّقدي المعروف. عبر زجّ القارئ في لعبة القراءة منذ البداية. محفّزاً لديه شعوراً نفسيّاً ضاغطاً بضرورة التأهّب لمكاشفات السّرد ومفاجآته .ومتابعة تطوّر وتمظهر الشّخصيّات وتقلّباتها في ظروف استثنائيّة خانقة. سواء ما قبل السجن أو ضمنه أو بعد الخروج إلى الحياة العمليّة . فمن ” تحت سقفٍ واطئ ” إلى ” أساور الورد ” ترتحل الشّخصيات إلى مصائرها التّراجيديّة فعلاً وانفعالاً في مركب الأحداث السّاخنة ، كمن في رحلة عودٍ أبدي لا ينتهي. من سجنها الماديّ الصّغير إلى سجن الحياة الكبير ،مروراً بسجنها النّفسي وتمزقات أرواح أبطالها في صراعهم الوجودي مع معتقداتهم من جهة، ومع القوى الرّافضة للتّغيير . فالعنوانان يتضمّنان مثل هذه الإمكانيّة التّفاعليّة للإيراق والتّناسل مع النّصّ الكلّي ومع نصّ الحياة عموماً . تحت صيغة : ” وتزعمُ أنّكَ جرمٌ صغير وفيكَ انطوى العالم الأكبرُ”. فالعنوانان يرتكزان على محمولات رمزيّة عديدة هي : ” الزّمكانيّة ،الاجتماعيّة ،الأيديولوجيّة ” . أهّلتهما لأن يشكّلا نصّين موازٍيين كثيفين لمجمل المشهديّة السرديّة . وهو ما يتّضح من خلال تتبّع إشعاعاتهما في فضاءات المسرود. حيث السّقف الواطئ ، يكاد ينطبق على صدر الشّخصيّات والقارئ أيضاً. ولا فارق بين القضبان أو الأساور، حتى لو كانت من ورد.
تيمة السّرد الجوهريّة :
العمل الرّوائي عموماً، مهما علتْ شجرته وسمقتْ ، فإنّ جذوره تضرب عميقاً في تربة الواقع. والتّخييل لا يبنى في الفراغ ،وإلّا غدا وهماً وثرثرة لغوية ،همّها فقط إظهار مهارات ساردها وقدرته على اللّعب بالكلمات وحسب . والعمل الأدبي الذي بين أيدينا بجزأيه هو عمل فنّي سردي وصفي يتنطّح لكشف المسكوت عنه في مرحلة من مراحل غليان المجتمع السوري ،هي مرحلة الثّمانينات. حيث تعالتْ أصوات الحركات الأصوليّة ” النّفير ” إلى جانب الحركات الاجتماعية السياسيّة ” الطفولية ” الأخرى ” الشعب” و” الراية ” وغيرهما من الأحزاب التي نادت بالتّغير. وقد استُثمرَ خطابها النّاري كحجّةٍ لملاحقتها وتصفيتها بشكلٍ لا رحمة فيه . هل هي رواية ” أدب سجون” إذن؟ أم هي رواية الهمّ الإنساني الاجتماعي في ظلّ الأنظمة الشّموليّة؟ التي حملتْ شعاراته، البرجوازية الصغيرة ” الأنتلجنسيا” برموزها المثقفة المعتنقة للأفكار التّغييريّة، والمنادية بمجتمعات العدل والحريّة وتحسين شروط الحياة. في الحقيقة التّيمة الكبرى للجزأين هي مزيج من الحالتين معاً.
شخوص وتواريخ وأمكنة :
تنتمي الشّخصيّات بتواريخها وشحمها ولحمها وتيّاراتها الفكريّة إلى الواقع السوري بجغرافيّته المتنوّعة الأطياف . التي احتضنتها ” حلب ” كبؤرة مكانيّة يشعّ منها الحدث ويتوهّج. حلب التي رعتْ تطوّرها الثقافي والفنّي والاجتماعي في تلك المرحلة الزّمنيّة العاصفة . وقد ترك الكاتب الكثير من الإشارات التي تفصح عن هويّتها ” أشبه بوثيقة ” . فالشّاعر ” رياض الصّالح الحسين ” هو أحد رموزها والفنّان المعتزل ” فهد يكن ” الذي غنّى أغنية ” حمّود يأكل من كتفيه ويشرب ” أيضاً . والقاص ” جميل حتمل” والفنّان التّشكيلي ” لؤي كيّالي ” والشاعر ” حامد بدرخان ” صديق الشعراء ” علي الجندي، ممدوح عدوان و العجيلي ونبيل سليمان غيرهم. تقابلهم شخصيّات ساردة ” سعد، لبنى، رؤى،جوزفين، شاهو، خلدون وغيرها من الرموز التي أربكتْ الرقابات بنشاطاتها وشعاراتها المختلفة. وضمن هذه الخلطة للواقعي والتّخييلي يقول الكاتب على لسان سارده : ” عند خروجي من السجن، التقيتُ بهيام حموي في دمشق خلال حفل فنّي كانت تقدّمه، ولمّا حكيتُ لها عن مدى تعلّق فاضل والسجناء بها ، وما كان يفعله صوتها الساحر ، وكلماتها الرقيقة بهم ، بكتْ ” . كما أنّ ذكر بعض التّواريخ ” حلب، 5/ 3/ 1980م. مونتريال 1/ 2/ 1980م. زاد من الإيحاء بواقعية الأحداث التي يعرفها كلّ من عاش تلك المرحلة أو كان على تخومها. وكذلك أسماء المقاهي التي كانت ترتادها شخوص الرواية ” القصر” العندليب” “فندق ” بارون ” ساحة ” سعد الله الجابري” ” باب الفرج” جامع ” العمري ” شارع ” القوتلي”. وأمّا الأحداث فقد سارت وفق مسار خيطي تراجيدي لم يكسر تراتبيّة الزمن إلّا ببعض اللقطات التي استدعتها الأحداث الدراميّة فكثّفتْ تواترها عبر التّداعيات والمونولوجات . وقد تداخلت الأزمنة الفيزيائية ” ماضٍ ، حاضر، مستقبل ” لينتصر الزمن السيكولوجي . ويعمّ الفراغ والغربة أمكنة الأحداث وشخوصها بانكسار أحلامهم و انتصار سياسة الطّيف الواحد.
تعدّد ضمائر السّرد :
حقيقة رغم الوجود المحسوس للسّارد الضّمني ” سعد ” بكلّ التّفاصيل، فإنّنا لم نلمس هيمنته على ضمائر السّرد . فهو انعكاس لوعي الكاتب نفسه المنتصر لأفكار الديموقراطية والعدالة الاجتماعيّة .لكونه صديقاً لجماعات التّغيير السلمي وعاشقاً منطقيّاً لا تعرف المغامرة غير المحسوبة النتائج درباً إليه. إلّا ما ندر . هذه المسافة الموضوعية التي تمترس بها، سمحت له بهامش حركة حياديّ أفسح المجال للضّمائر السّاردة الأخرى بأن تقول ما لديها . وهذه ميزة حقيقيّة للرواية إلى جانب الشّاعريّة والرشاقة والتّشويق والإقناع والانتصار لضمير المؤنّث. حيث توازتْ الشّخصيّات المؤنّثة الساردة ، ومثيلاتها المذكّرة ، عدداً و حضوراً وثقافة. كما نجح الكاتب في تعميق إحساس القارئ بما يجري، وهذا ما انعكسَ من خلال المشهد الوصفيّ الرّمزي عالي الدراميّة والجمال والتّحدّي . مشهد خطبة ” لبنى” على “فاضل” ومشاركة رفاقهما لهما الفرحة في مهجعي الذّكور والأناث . وقد تواصلوا بالرسائل المغلفة بالنايلون من خلال البالوعة الممتدّة بين المهجعين. وينتهي المشهد بتمزّق ثوب العرس وابتلاله بالدّم.ليبقى السّؤال مبتوراً على شفاه الشّخصيّات : ” ماذا نفعل إذا كان ثمّة عيد واحد للقبلة وأعياد كثيرة للقتل..ماذا نفعل ؟ “.
أوس أحمد أسعد | كاتب وشاعر سوري
Post Views:
0