الاصلاحية | آثار جانبية |
هو ذاك الشعور التقليدي لعبورك حدودد وطنك، ليست المرة الأولى ولكنها ذات طابع ٍغريب، فالمخيمات التي عبرتها نظراتي في الطريق المؤدي لباريس الشرق “بيروت” أعادت إليَّ كلما كُتب عنها وصُوّر فيها.
فمخيمات اللجوء كانت المسرح الأكثر جذباً لأقلام وعدسات الإعلاميين، ظلّت هذه الأفكار تعجُّ في رأسي إلى أن قطعتها النغمة المتقنة لعامل الاستقبال في فندقٍ ذو نجمتين “بونجور دوموزيل”…
ولَجْتُ غرفتي ذات الرقم 803، وما إن أرخيت تعب رحلتي على سريرها المتواضع حتى عادت إليّ أصوات تلك التقارير الإخبارية التي اعتدناها لخمس سنواتٍ ونيّف، دفنت رأسي تحت الوسادة لعّل هذه الضوضاء تتركني، لاكتشف أنها صوتٌ حقيقي من مكانٍ آخر، خرجت للشرفة متتبعةً مصدر الصوت لأرى في المبنى المقابل وفي طابقه السابع تحديداً، أحدهم يتابع نشرة الأخبار ….
في طوابق عدة ومبانٍ كثيرة ومواقع متناثرة، انتشر السوريون عوائلاً وفرادى في لبنان، وغزت ألعاب الأطفال أزقتها، إنهم في كل مكان.. ليس في المخيمات فحسب….
غرفتين لـ 14 شخص.. والـ 10% مساعدات…
في شبه غرفتين ضمن كراج للسيارات تابع لأوتيل، تعيش عائلة سورية مكونة من 14 شخص أصغرهم طفل عمره 10 أيام، بالتأكيد هو ليس من بين الأطفال السوريين الذين لمّح لهم وزير خارجية لبنان جبران باسيل حين قال أحد أكبر مستشفيات بيروت سجّل في أيار ولادة 80 سوري مقابل 40 لبناني”..
علي وصالح وأحمد هم الممول لهذه الأسرة الكبيرة، تبدو علامات الامتنان على وجه الأم “معاملة اللبنانيين حيل زينة”..
أحد الغرفتين تحولت لبيت بكامل عناصره، كانت الملجأ لهم حين هربوا من بلدة القورية في دير الزور تاركين وراءهم أعمالاً في الزراعة وبيوت باتوا لا يعرفون عنها شيئاً اليوم..
تضع ابنتها (وجبة الغسيل) وتعقب 1000$ شهرياً من عمل أخوتي الثلاث في تنظيف ممرات الأوتيل هو ما يسد رمقنا بما تيسّر، “سجّلنا على مساعدات وعِدنا بها من قبل الأمم المتحدة لم يصل منها شيء بعد”، لحظات صمت تبعها صوت الأم: “ياريت نعود للزراعة”..
تبدو هذه الأسرة خارج حسابات باسيل حين قال “المساعدات المالية للمنظمات الدولية هدفها إبقاء النازحين في لبنان وهذا أمر نرفضه” وأكد على عدم التلكؤ بعودة النازحين معتبراً ذلك تواطؤاً والسكوت عنه جريمة..
يقلل الخبير الاقتصادي والأكاديمي اللبناني الدكتور إيلي ياشوعي من شأن تلك المساعدات فيقول: “المساعدات الدولية التي وُعد بها لبنان من أجل مساعدته على تحمل اللاجئين لم يبق منها سوى نسبة ضئيلة لا تتجاوز الـ 10%” ويرى ياشوعي بأن الدولة اللبنانية هي التي تحملت القسم الأكبر من أعباء النزوح السوري لا المجتمع الدولي الذي اقتصر دوره على بعض المساعدات العينية، ربما ضآلة نسبة المساعدات جعلت المحلل الاقتصادي السوري طارق عجيب يوجه أصابع الاتهام إلى الدولة اللبنانية، فيقول: “حاول لبنان أن يكون له حصة مما يرصد للاجئين من قبل الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي وغيرها من جهات ومنظمات وممولين”، وهو ما ظهر جلياً -حسب عجيب- في تصريح وزير الصحة اللبناني وائل أبو فاعور “الصندوق الائتماني وَهْم بيع لنا في لحظة، فلتعتمد الدولة اللبنانية على نفسها، ولتلجئ لإجراءات بدل التباري بخطط”…
فلاش باك … الطابق السابع والأمبير الوحيد..
على بعد أمتارٍ قليلة من الفندق الذي قطنت، في بيروت، يقف بناء مازالت آثار رصاصات الحرب اللبنانية واضحة على طوابقه الـ 12، المشهد متناقض ويبدو أن ذلك المبنى خارج سياق المكان تماماً..
في الطابق السابع وفي إحدى الغرف التي استقبلت لاجئين سوريين تقلي أم عامر قطع الدجاج لأطفالها وزوجها (الدّهان)، تلك العائلة هربت من حي الصالحية في حلب في 2012 حاملةً معها انحراف في عيني الطفل الثاني وكتلةً في كتف الأم، تبدو أم عامر مبتسمة وهي تُعد الطعام لعائلتها، وتردد دائماً “مستورة الحمد لله”، حاولت ربّة الأسرة المساعدة في العمل “اشتغلت لفاية في بيت لبنانيين” براتب أسبوعي وصل لـ 35 ألف ل.ل، تحاول الإسراع في تحضير الطعام فالضوء الوحيد الذي يضيء الغرفة يمكن أن يخذلها بأي لحظة “ندفع أجار هذا البيت 350$ مع 3 كيلو واط من الأمبير”(مجموعة التوليد الاحتياطية)، لا تظن تلك العائلة أنها من بين المقصودين بتصريح باسيل حين ركّز على العبء الاستهلاكي للاجئين، “كنا ندفع شهرياً لسورية ثمن استجرار الطاقة بين 30-35 مليون$ شهرياً أصبحنا نقدم مجاناً للنازحين 100 مليون $ كهرباء”…
وفي هذا السياق يقول مهندس كهرباء -رفض الكشف عن اسمه- “إن شراء الكهرباء من سورية بمبلغ 35 مليون$ كان يمثل 5% تقريباً من استهلاك لبنان في حين هو يدفع الآن 100 مليون$ أعتقد أن المقصود منه تغذية كل لبنان أو جزء منها وهذه المقارنة لا تفيد بشيء لعدم وجود شيء مشترك أساساً ولا أعتقد أن القائل جاهل وبالتالي نستبعد هذه الفكرة”
ويحاول المهندس نفسه أن يعطي تحليلاً آخر لباسيل فيقول: “إن كان المقصود أنه كان يشتري الكهرباء لتغذية عدد من سكان لبنان ولنقل نصف مليون فكان يدفع 35 مليون $ في حين أنه يغذي الآن مليون ونصف مواطن سوري وبالتالي يدفع ثلاثة أضعاف المبلغ أي 100 مليون$ ” وهذا ما يعتقده المهندس تفسيراً لجملة العبء الاستهلاكي أي زيادة استهلاك جميع المواد ومنها الكهرباء..
“لا مبرر اقتصادي لكلام باسيل ” هكذا رد ياشوعي “لو بنينا قطاعنا الكهربائي لما شعرنا بالهدر الاستهلاكي للكهرباء ولا اقتصينا من اللاجئ السوري”
حكاية الكاشير السوري … والـ 27.5 مليار دولار
“الأزمة لا تقتصر على توفير الدعم المادي للدولة اللبنانية لتوزيعها أو تغطية الاحتياجات بل أصبحت تتعلق بالأمن الاقتصادي للمواطن الذي بدأ يشعر بضغط كبير بناحية المنافسة غير المنطقية وغير الشرعية”، هكذا عبّر الوزير السابق عدنان القصّار عن خوفه من تداعيات الأزمة السورية
عوّاد.. لم يسمع قط بهذا التصريح ولا يعتبر نفسه منافساً لأحد.. عمله الجديد كمحاسب في سوبرماركت يعتبره نقلة نوعية، “بقيت أعمل لسنتين في توصيل الطلبات لمطعم براتب شهري أقل من 500$ شهرياً على أمل الترقية مادياً أو معنوياً”، لم يحتمل عوّاد الذي أكمل دراسة الحقوق في القامشلي ذلك، فعمل على ترقية نفسه بنفسه بعد أن لمس التفرقة بين السوريين واللبنانيين …
يعلق عجيب “السوريين في لبنان لم ينافسوهم إلا في المهن التي كان اللبنانيون سابقاً يتخلون عنها بكل رضى وتعفف”، ولم ينافسوهم في مجال المال والأعمال أيضاً التي تكون هنا ذات ريعية كبيرة ومجدية للاقتصاد اللبناني، لذلك لم يتأثر سوق العمل في تلك المجالات، بل أن هناك مهن وصناعات دخلت لتكون رافدة في بعض القطاعات وريعية بشكل ملفت”
تبدو الدكتورة رشا سيروب ملمّة بالأرقام التي يجب على اللبنانيين معرفتها إن استطاعوا تحييد صراعاتهم السياسية والطائفية لصالح الأمن الاقتصادي والاجتماعي “ارتفع حجم ودائع القطاع الخاص من غير المقيمين بالعملات الأجنبية وفق تقرير مصرف لبنان المركزي من 15.66 مليار دولار عام 2010 إلى 27.5 مليار$ عام 2015 أي بمقدار 76% علماً أن أكثر من 90% من هذه الودائع هي حسابات ادّخار طويلة الأجل أي تشكل عامل استقرار للسياسة النقدية”..
الطابق السابع من جديد ..
يعود أبو عامر من عمله يحمل سطل الطلاء يضعه جانباً مرحبا بي، يركض طفله البكر ليريه الجلاء المدرسي، ينظر أبو عامر بحسرة فلم تحوي تلك الورقة ذات الرموز غير المفهومة وثيقة امتياز كما اعتاد أن يراها في كل فصلٍ عندما كانوا في حي الصالحية بحلب، يوضح أبو عامر “تأخر طفليّ عن دراستهما حين لم تستقبلهم المدارس اللبنانية”، اعتاد الطفلان على اللغة الفرنسية من خلال أساتذتهم اللبنانيين، ولكن الأم لم تعتد على (اللغة اللبنانية)! التي كلّمتها بها مديرة المدرسة ” مش شاطرين غير بالـ الأفواغ ديز اونفو” وعندما استعانت بعامر لترجمتها جاءه الجواب صفعاً من أستاذه “عم تحكي بالسيكس ولاه”! ..
لملمت حوائجي القليلة ودفتر ملاحظاتي ومن خلف ستارة الشرفة ألقيت نظرة الوداع لأبو عامر الذي لمّا يزل يتابع نشرة الأخبار، أغلقت باب الغرفة التي بات رقمها اليوم يذكرني بشيء واحد فقط، إنه إصرار من التقيتهم على العودة إلى سورية، فلا أرض تغنيهم عن بلدهم، ولا التّوطين الذي يخشاه بعض مسؤولي لبنان يخطر ببالهم، غادرت ومعي كل القبلات وكل السلامات لتفاصيل بلدٍ عشقه أبناءه وغادروه قسراً..
داماس بوست
Post Views:
0