الاصلاحية| أوس أحمد أسعد |
أحياناً ، قد تزلّ قدما ظلّك وتسقطُ من أعلى شجرة الحلم ، في عصافيرها، فتنكسر أجنحتُك ،و تُطعن رئاتك بشهقات الرّيح . وأحياناً وأنت تلملمُ أشلاء عتمتكَ عن حبال الرؤيا ، يصدفُ أن يعبرَ قوسُ قزح صغير، وينتشلكَ من الضّياع. فلا سرابكَ يكتمل، ولا نجومكَ تُهتدَى. فقط هي الانتباهة الموجعة وقد اختمرت، تُصليكَ بحمّاها حدّ اكتواء .ها أنذا، أراكَ تتنزّه في حديقة البرزخِ ،تحفّ بكَ اليماماتُ، وثمّة دندنة لها طعم الصّدأ ترافق خطوكَ. قبل أن تتقمّص زيّ الرّاوي وتذوب في ملح النصّ . بضع ثوانٍ كانت كافية لتموتَ ببهاء، ويكتشفكَ طحلبٌ مغامر،أو حلزونٌ حكيمٌ، واهباً إيّاك قوقعته لتختفي مرّة واحدة وإلى الأبد .هي أكثر من كافية، لتتفادى غزالة فخاخها ، بقفزة ضوء ماطرة ،حيث احتمال السّقوط في الهاوية كان الأقوى . والهبوط المدوّي للزمن إلى درجة الصفر،هو الأرجح . ما يحاول قوله بقليلٍ من المداورة، أنّها كانت المغامرة الأقسى في حياته ، على هذا الصّعيد . وقتَ تمكّنت أنثاه من اجتياز نفقَ الشّكّ مع آخر دفقة فطنة اكتنزها شحوبها ،وبقي هو مسمّراً إلى وجيبه المتلاطم كتمثال . بضعُ ثوانٍ وحشيّة سقط فيها الأفق على وجهه مغشّياً، واندلقت مياه مالحة، جارفةً الأرض تحتهما إلى المجهول. ليطفوا فوق سطحها جسدين عاشقين غابا ببعضهما حدّ الامّحاء . لحظات تحوّلَ فيها المكان إلى أذن عملاقةٍ حادّة الإصغاء، تكاد تلتقط دبيبَ النّمل. فلم تعد تسمع سوى تكتكات القلبين الواجفين، يرقص على إيقاعهما نبضُ الكون . صوت دوران المفتاح في القفل ، فتّتَ زجاج اليقظة إلى شظايا لانهائيّة ، الزّاوية الحادّة لانفراجة الباب ، الولوج الواثقُ، غير المتوقّع للرّجلِ .كلّ ذلك كان أشبه بزوابع شوكيّة نبتت للتّو في الحلق غازيةً الجسدَ والرّوح. ليتخثّرَ الهواء على العتبة وليغرق الوجود في بحرٍ من اللّزوجة واللّا معنى . من شقوق الذّاكرة، بدأ تاريخ حافل بالخيانات الخضراء ينثالُ مرتجفاً على ضفافِ المشهد .لأوّل مرّة بحياته يؤمن بالمثل الشعبي ” الثالثة ثابتة ” ،لقد نجا من كارثتين سابقتين كادتا تقذفان به إلى التهلكة .
المغامرة الأولى خاضها في لجّة ليلٍ شتويّ يمورُ بالدّفء والعذوبة .افتداءً ،لعلاقة عاصفة مشبعة بفاكهة الجسد ،دامت لسنوات، وانتهتْ ببساطةٍ ، لاستنفاذ طاقة ديمومتها. حين فُتح باب المنزل ليدلفَ ” الأخُ ” إلى غرفته الخاصّة الأقرب إلى الباب الخارجي، ثمّ إلى المطبخ الذي يلي غرفة أخته ، عائداً بعد دقائق ليتفاجئ بحضوره المريب معها . كان يعرفه جيّداً ويواكب بقلقٍ قدومه الكثيف، أثناء غيابه . وضعيّة جلوسهما المتّزنة، متقابلين ساهمين بحديث لا ينضب أعطت المشهد مصداقيّة عالية أخرستْ أسئلة الشفاه،. وضعيّة بدتْ متناقضةً حدّ الألم ، مع ما كانا عليه منذ قليل. اكتفى ” الأخ ” بنظرات مرتابة ـ غلّفها شكٌّ رصين لشيخٍ متدرّبٍ في طور التّلمذة ـ وقفل لائباً إلى صومعته ليستمطرَ بركات أولياء صالحين زيّنت عماماتُهم حيطان غرفته الشّاحبة. غارقاً في ضباب أوراق صفراء تُطيل بتعاويذها قامة الخلاص المنتظر.
المغامرة الثّانية جاءت تلبيةً لنداءات عشقٍ عتيقٍ استصرخه بحرقةٍ في منتصف ليلٍ صيفيّ حين هربت أنثاه من سجن بيتها الرّيفي إلى المدينة، واستأجرت الملحقَ الأخير لبنايةٍ من طابقين، داعية إيّاه إلى وليمة حبٍّ دسمة ،علّها تعوّضهما عن قسوة الفراق الطّويل. وما أن أنجز الجسدان غرقهما المُشتهى، وطفا زبدُ شوقهما عالياً، حتى قُرع الباب أسفل البناية . هتفتْ مذعورة أو هكذا خيّل إليه : يا إلهي إنّه أخي، ما العمل ؟!.لوهلة ظنّ أنّ ثمّة تواطؤ بينها وبين أخيها ضدّه، فهي هاوية فخاخ كما يعرفها جيّداً، قضت ثلث حياتها مطاردة بأشباح كوابيسها اليانعة ،إذ ما الذي يدعوها لاستقدامه بعد كلّ تلك السنين وفي منتصف الليل، ليتشاركا وليمة الحبّ، دون وضع احتمال قدوم أحد ما ،وإمساكهما بالجرم المشهود؟ ! . لكنّه لمعرفته بتهوّرها الدّائم الذي كاد يودي بهما مرّات كثيرة إلى الجحيم، استبعد مؤقتاً فكرة التّواطؤ والفخاخ . فهي لا تهاب شيئاً في سبيل هدفها. وصوليّة بامتياز، الغاية لديها تبرّر الوسيلة، دوماً . ما يتذكّره حينها حدّ الهلوسة ، هو رؤيته بأمّ العين، لخطوات الزمن المجنونةً تتناهبُ درجات السّلّم الحجريّ ،متدربكةً مع خطواتِ قدميه المتسارعة نحو باب الخروج . لقد كان أوّل الواصلين إليه. التقيا عند الباب ، زائرين مبهمين في منتصف ليل تمّوزي حارق، ألقى عليه تحيّةً عاجله، لدرء الشّبهة، وانطلق غائصاً في عباءة الظلام المخيّمة على المدخل، لا يلوي على شيء . لعلّه خمّنهّ أحد زوّار البيت الأرضي، من يدري ؟! .هي الحواف ذاتها دوماً ،الشوك والجمر اللّذان أتقن المشي فوقهما أغلبَ عمره . أمّا الآن وآهٍ منك أيّها الآن ! بجرفكَ الشّاهق ينتظرُ زلّة قدمه الوشيكة ، فهل من مفرّ؟ . الزّاوية الحادّة لانفراجة الباب بدت فارغة الشّدقين ،وجاهزة لالتهامه ، ربعُ استدارة الرّجلِ البطيئة ،الثّواني القليلة المترمّدة على شفاه الوقت، الصّدمة المتشظّية التي أحدثها فحيحُ المفتاح ، وذاك الضّباب الصّديق الذي غيّبَ الملامح في قلنسوته، ليخفى الجسدين الملتهبين. كم هو مدينٌ لتلك النّباهةِ ،تزوره كلّ عقدٍ من السّنين لمرّة واحدة وقد شحذتْ حذره ، فلم يُقدِمْ على نزع ملابسه . أمّا هي، فجرأتها كانت طاغية، تعرّت حتّى آخر ورقة توتٍ على أغصانها . موعزةً لحدس الأنثى اليقظْ بالغفوة، بعد أن طمأنها تقديره للزمن،وإبعاده لاحتمال ممارسة فعل الحبّ في الغرفة الداخلية ، وإلّا لكانت كلّ قوى الأرض عاجزة عن منع وقوعهما في المصيدة التي نصباها طواعيّة لنفسيهما . لأنّ عمق الغرفة الدّاخلية بالنسبة للباب الخارجي،كان سيمنع أذنيهما بالتّأكيد، من سماع صوت دوران المفتاح في القفل . القوى الخيّرة التي منعت اكتمالَ الصّيرورةِ ، متعاطفة معهما، أوقفتْ الزمن على العتبة ، مفسحةً المجال أمام الغزالةُ لتفرّ بأقصى سرعةٍ ممكنة نحو الحمّام ،مغلقة إيّاه بضجّة خفيفة .ليقف هو مبهوتاً كا لأبله، وقد استطاع بمشقّةٍ التّحكّم بملامحه ، والانتصاب من جديد بشعر مشعّث وهيئة من يغالب اليقظة ، فبدا كمن يحاول توضيب أغطيته . بدوره وقف الشّقيقُ صامتاً لهنيهة ،لا يدري ما يفعل، ثمّ بادر بإلقاء التّحيّة . وهذا ما هدّأ من هلعِ العاشق قليلاً ، لينطلق بعدها منقطع الأنفاس إلى المغسلة متظاهراً بغسيل وجهه . بينما هو في الحقيقة يحاول منح روحه زمناً أطول لتخرجَ من رماديّتها وتستعيد بعض التّوازن . مضى الزّمن ببطئ شديد ، وهو يجرّ قديمه المتثاقلتين نحو الشّرفة، حيث جلس الشّقيقُ منتظراً قدومه. بينما بقيت هي مرتجفةً في مكمنها ، فراشة تنتظر احتراقها الوشيك . لم يستعدْ وعيه إلّا بعد سماعه صوت محدّثه يدعوه ـ مستغرباً شروده الطويل ـ لقراءة ما كتبه أحد الجهابذة الطّارئين على دنيا السّياسة في الجريدة اليوميّة ، بأنّ الأزمة ” خلصت وفشلت ” وهانحنُ في الهزيع الأخير قبل قطف ثمار الانتصار على قوى الظلام . هزّ رأسه بطريقةٍ أرادها أن تبدو غامضة. جلسا متقابلين . بدا محدّثه،أخاً حليماً و أكثر من طبيعيّ . بينما تابع هو تنقيبه في ملامحه الحياديّة ، متوقعاً انفجاره بأيّة لحظةٍ ،وقد نزع قناع تماسكه الشّفيف. لم يحدث أيّ شيء من ذلك . لكنّ التفاتة مفاجأة إلى الدّاخل أعادت قلقه إلى مربّعه الأوّل، حيث كانت ورقة التّوت الأخيرة التي غطّت مثلّث العاشقة ، تتلوّى مذعورة على الكرسي . وتكفي ربع استدارة ، لرؤيتها ! . لكنّ خروجَ صاحبتها، وقد اطمأنّتْ لحديث الرجلين الودّي،ماطرة الملامح وإلقاءها تحيّة الصّباح عليهما ،وكأنّ شيئاً لم يكن، أضفى على المشهد سورياليّة خاصّة . مضتْ بكامل الهدوء ، حيث ترقدُ ورقة التوت ،وغيّبتها بسرعةٍ في الغطاء الصوفّي القريب ،كمن يؤدّي عملاً روتينيّاً مألوفاً. ومع فنجان القهوة السّاخن الذي قدّمته له، غابَ ثانيةً في إغماءته، غير مصدّق تلك النّهاية الواقعيّة للمشهد الكارثيّ . فمنذ دقائق ،كان يتدلّى إلى منتصف بئرها، وفمه يطير من حلمة إلى أخرى، ممرّغاً رأسه بين نهديها الفائرين الصّلبين. أثنى ثانية على نفسه، وثمّة سؤال دفين مازال يؤرّقه : كيف استطاعت تلك السمكة، بثوانٍ قليلة الانزلاق من تحته والتّبخر في عتمتها ، كيف ؟! .
المصدر: مجلة المعرفة | وزارة الثقافة
ومن الأعمال الشعرية للكاتب:
- للوردة لبقايا الخراب
- آنية الكلام
- غابة المفردة نشيد الغبار الطلق
- بسمالخ حجل يسند البهاء
- سوناتا عذوبة تبعثر الكستناء
- ستفتك بك امرأة عالية التفاح
- كنهر أعلى السروة أو كجناح
- وللشاعر عدد كبير من المقالات النقدية نشرت في عدد من الصحف والمواقع السورية..
Post Views:
0