أذكر كما غيري من جيل التسعينيات يوم كان موفق الخاني يفتتح برنامجه المعروف “من الألف إلى الياء” مساء كل خميس، ونذكر أيضاً كيف أُوقف عام 2004 من دون معرفة السبب بعد 42 عاماً من الإعداد والتقديم، إلّا أن البحث في أرشيفه الغني، يجعل من ذلك أمراً ثانوياً، ولاسيما إذا ما صادفتنا صورة نادرة للجيل الأول من طياري سورية سنة 1947 “الدورة الأولى من سلاح الطيران العربي السوري”، وفيها نرى الخاني، واحداً من أول عشرة طيارين سوريين، وعلى عادته في المثابرة، لم تكن هذه سوى البداية.
يستحضر الإعلامي في حديثه لـ”الأيام” زمناً قلّ أن نجد من عايشه في وقتنا هذا، ورغم أنه تجاوز التسعين، ما زال قادراً على تأكيد التواريخ والأسماء كأنها بالأمس. بدأ مشواره في عالم الطيران حين ترك مدرسة الصنائع في دمشق، وكان طالباً في الصف العاشر، ليلتحق بمدرسة الطيران الفرنسية في “رياق- لبنان”، زمن الانتداب الفرنسي، حيث انتشرت إعلانات في الصحف عن افتتاح مدرسة لتدريب طيارين وتسليمهم سلاح الطيران بعد نيل الاستقلال.
تخرج الخاني عام 1942 كميكانيكي طائرات، ولما تنته الحرب العالمية الثانية، عمل مع زملائه في إصلاح الطائرات واشتغلوا مع الفرنسيين كعسكر في جيش الشرق ثم حصل على ترقية مع سنوات الخدمة.
في تلك الفترة كان المطار معرضاً دائماً لضربات الطائرات الإيطالية، تأتي ليلاً لضرب بيروت بالقنابل ثم تلقي ما تبقى لديها فوق المطار.
عام 1945 ومع نهاية الحرب، طالبت سورية بالاستقلال وبدأ عهد من التظاهرات والإضرابات.
يقول الخاني: رأينا أنه من غير المناسب البقاء تحت إمرة الفرنسيين، لذلك هرب عدد من زملائنا “حوالي 60 سورياً” باتجاه جبل قريب ومنه إلى الزبداني، هناك استقروا في مدرسة تحولت لاحقاً إلى سرايا لكنني مع آخرين لم نكن على علم بعملية الهروب، فقررنا اللحاق بهم، ولم يكن ذلك سهلاً بعد أن علم الضباط الفرنسيون بما حصل، أخذنا سيارة “كميون” واتجهنا إلى الحدود السورية- اللبنانية، التقينا بدرك سوريين وطلبنا منهم أن يضعوا براميل في الطريق لإعاقة الباحثين عنا.. بعدها اجتمع العساكر السوريون مع أصدقائهم، عاد البعض إلى مناطقهم واتجه البقية إلى قلعة دمشق، حيث طُلب منهم العودة إلى بيوتهم على أن يتم التواصل معهم عند إنشاء جيش.
مرت أشهر ثم دُعي الخاني وزملاؤه لاجتماع في مدرسة في شارع خالد بن الوليد بدمشق، كان وقتها رقيباً، فتعاون مع الضباط لتنظيم تعداد العسكر وأضابيرهم بإشراف “عبد الله عطفة” أول قائد للقوات المسلحة السورية يومئذ.
إضافة إلى ذلك، كان لا بد من ترتيب مطار المزة بعد أن تركه الفرنسيون، فبدأ العمل لتهيئة هنغاراته وإصلاح الطائرات الموجودة فيه.
بالتزامن مع تحضير الجيش، فكّر المعنيون بضرورة وجود طيارين سوريين، فسلمت الحكومة السورية، العقيد “عبد الوهاب الحكيم” ما صار يعرف بمديرية سلاح الطيران، واستعد الفنيون لتقديم خدمات للطائرات مع شراء أخرى أمريكية وإنكليزية والتعاقد مع طيارين أجانب.
بعد فترة سافر الحكيم إلى مصر، درس مع المسؤولين فيها إمكانية إرسال ضباط لتعليم السوريين الطيران، فاختاروا عدداً منهم وأرسلوهم، معهم ظهر أول سرب للطيران، ضم الطيارين السوريين الأوائل وهم الموجودون في الصورة التي بدأنا الكلام عنها، وهم أيضاً من حاربوا في فلسطين.
تتالت الأحداث حتى جاءت “حرب الإنقاذ” عام 1948، وطُلب من الخاني ورفاقه كميكانيكيين تجهيز الطائرات برشاشات وحاملات قنابل.
يروي لنا وقائع لافتة منها مثلاً أنه حلق بطائرته “لمياء” فوق سماء فلسطين، وأن الفرنسيين حين جلوا عن سورية تركوا قنابل في نهر العاصي فقام الضباط بإخراجها وتجفيفها لاستخدامها في المعارك، أيضاً علموا أن الألمان والإنكليز تركوا أسلحة كثيرة بعد الحرب العالمية في الصحراء الليبية، فاشتروا أعداداً منها للقتال ضد “إسرائيل”.
بعد الحرب تسلّم الخاني سرب النقل، بحث عن طريقة للاستفادة من طائرتي ركاب تتسع كل واحدة منها لـ 26 راكباً، واقترح إنشاء خطوط جوية، لكنه قوبل بالممانعة بعد إفلاس شركة طيران سورية مساهمة كانت موجودة قبل سلاح الطيران، أسسها كبار الاقتصاديين والتجار، واشترى الناس أسهماً فيها بعد أن فتحت خطوطاً للطيران، منها خط “دمشق- القاهرة”، لكن بسبب الخوف من فكرة الطيران لم تستطع استقطاب ركاب فأفلست.
هنا حاول الخاني التحايل على الخطأ السابق بنقل الحجاج عوضاً عن صعوبات سفرهم براً.
مع الزمن ظهرت شركة طيران حتى أنها تمكنت من سداد الديون القديمة وتأسيس خطوط داخلية “حلب، القامشلي، دير الزور، بيروت”، واتفقت مع شركة طيران سعودية كانت تعمل في سورية لتقاسم أرباح نقل الحجاج، صار اسمها مصلحة الطيران المدني، وهي لا تزال موجودة حتى اليوم.
أسس الخاني نادي الطيران الشراعي عام 1954 مستفيداً من شرط التقدم للبكالوريا، القاضي بالتحاق الطالب بدورة تدريب عسكري مدتها شهر كامل، وأقنع المسؤولين بجعل التدرّب على أي طائرة معادلاً للدورة، كالعادة كان الخوف عائقاً لكن سرعان ما ظهرت أفواج من الطلاب حتى أمكن انتقاء الأفضل بعد إجراء فحوصات طبية، وظهر منهم خلال سنوات أبطال جمهورية في الطيران وطيارون شاركوا في معارك لاحقة وقباطنة للطيران المدني.
كان للنادي الشراعي إنجاز مهم حين أصابت حشرة محصول القطن في الساحل السوري.
أراد الخاني تطبيق ما قرأه صدفة عن مكافحة حشرة القطن برش المبيدات باستخدام طائرات شراعية شبيهة بالموجودة لديه لكن ذلك تطلّب إضافة بعض الأجزاء لنجاح عملية الرش.
يضيف في حديثه: طلبت من رئيس الأركان “أديب الشيشكلي” أن يسمح لي بالتجربة، فاستخدمت أدوات وأجهزة خاصة وحلقت بالطائرة لتجريب الطريقة عملياً ورش الرذاذ المطلوب، نجحت في النهاية وحصلت على ثناء وتقدير.
في فترة الوحدة بين سورية ومصر، التحق موفق الخاني بدورة أركان حرب، ليصبح “عقيد طيار أركان حرب”، وكانت تلك الخطوة الأخيرة قبل أن يترك عالم الطيران “وهو الطيار المدني والعسكري، وله 2500 ساعة طيران”، نحو مجالات أخرى كعمله في جمعية مكافحة السل المستمر حتى اليوم ومشواره الإعلامي الحافل.
يؤكد لنا الإعلامي الطيار أن العمل بأمانة ومحبة الناس هما رصيده الأهم ودافعه الدائم للبحث في أي مضمار.
“الأيام”