الاصلاحية | فاصل سياسي |
قبل فورة النّفط في مملكة الصّحراء عام 1974م كان ثمّة قطيع من الماعز يتجوّل منقّباً بين أكوام القمامة خارج مبنى حكومي في عاصمة أغنى مملكة نفط في العالم، شيء لا يصدّق!. إنّها الوسيلة الرئيسيّة في المدينة للتخلّص من القمامة، كما قال دبلوماسيّ سعودي يوماً ما: “نتركها للحيوانات لأنّه ما من سعودي يحترم نفسه يمكن أن يجمع القمامة”.
أوس أحمد أسعد | هذه الصّورة التي أثارت اشمئزاز أثرياء السّعوديّة الذين يجوبون مرافق العالم المرفّهة، شكّلتْ العتبة أمام المخطّطين الاستراتيجيّين الذين رسموا خرائط الجغرافيا السّياسيّة للمنطقة، وكانت المفتاح لفهم كيفيّة التّعامل مع ذهنيّة حكّام المملكة الدائرة في الفلك الأمريكي. لقد كان تاريخ العربيّة السعوديّة مليئاً بالعنف والتّطرّف والعمالة والتعصّب الدّيني. ففي القرن الثامن عشر تحالف محمد بن سعود، مع أصوليّي المذهب الوهّابي ليشكّلا حلفاً قوياً وليبدؤوا بعدئذٍ بإخضاع معظم شبه الجزيرة العربيّة، بما في ذلك مقدّسات الديار الإسلامية، مكّة والمدينة المنورة، ثمّ ليفرضوا تأويلاً صارماً للمعتقدات القرآنية.
يقول أحد راسمي خرائط المنطقة “جون بيركنز” في أوّل زيارة لي إلى الرياض أدهشني السّائق حين أخبرني أنّ باستطاعتي ترك آلة التّصوير، وحقيبتي الشّخصيّة وحتى محفظة نقودي، في مكان ظاهر داخل السيارة، التي تركناها بالقرب من السّوق المفتوح بدون إقفالها، فلا أحد سيسرقها، لأنّ اللّصوص تُقطع أيديهم.
ثم سألني إن كنت أودّ أن أزور ما أسماه ساحة الإعدام لرؤية عمليّة قطع الرؤوس، وبالطّبع لم أوافق، ما كان يشغل ذهن الزّائر حقيقةً هو استبدال منظر الماعز بشيء جدير بهذه المملكة الصحراوية المتطلّعة إلى ولوج العالم الحديث. ومافتئ اقتصاديّو “أوبك” يؤكّدون على حاجة الدول الغنية بالنفط لتحويله إلى منتجات ذات قيمة مضافة، ويحثّون هذه الدول، بدل الاكتفاء بتصدير النّفط الخام، على إنشاء صناعات لاستعماله في إنتاج منتجات مستخرجة منه يمكن بيعها في العالم بسعر أعلى من سعر النّفط الخام نفسه. لقد كان ممكناً أن تستغل عائدات النفط في استخدام الشركات الأمريكية لإحلال أحدث نظام في العالم لجمع القمامةً. فمن خلال فكرة الماعز ستظهر في الصحراء مجمّعات كيماويّة نفطيّة تنتشر حولها مناطق صناعية ضخمة، وهذا يقتضي بناء مولّدات كهربائيّة تبلغ طاقتها الآلاف من وحدات الطاقة الكهربائية وبناء خطوط إرسال وتوزيع وطرق سريعة، وخطوط أنابيب وشبكات اتّصال وأنظمة نقل تضمّ مطارات حديثة وموانئ محسنة ومنظومة أعمال الخدمات والبنية التّحتيّة الضرورية لإدامة أسنان العجلة.
وبما أنّ السعوديّين لا يعملون في الأعمال الوضيعة كما قال الدبلوماسي السعودي، فلابدّ إذاً من استقدام أيدٍ عاملة رخيصة من بلدان أخرى “مصر، اليمن، الباكستان، فلسطين وغيرها” للقيام بهذه الأعمال، وهذا الأمر سيخلق حيلة جديدة لبناء تجمّعات سكنيّة لهم، وأسواقاً ومستشفيات وخدمات شرطة ومطافئ ووحدات تنقية مياه ومجارٍ وشبكات كهرباء واتّصالات ومواصلات، أيّ بناء مدن حديثة كانت ذات يوم مجرّد صحراء. كما تبدّت فرصة لاستكشاف التقانات الناشئة مثل محطات تحلية وأنظمة موجات بالغة القصر ومجمّعات عناية صحّيّة وتقانات حاسوبيّة. هكذا، قدّمتْ السعوديّة فرصة اقتصاديّة، لا مثيل لها في التاريخ. بلد متخلّف بموارد مالية هائلة ورغبة بالدّخول إلى العصر الحديث سريعاً. فقط، ما كانت تتطلّبه الخطّة هو وضع هدفين: رفع ما تقبضه الشّركات الأمريكيّة إلى الحد الأعلى وجعل السعودية تعتمد أكثر فأكثر على الولايات المتحدة. وكذلك سيؤدّي النّمو الاقتصادي لدى هذه المملكة إلى نمو صناعة أخرى وهي التّفكير بكيفيّة حماية شبه الجزيرة العربية، وهنا يمكن للشركات المتخصّصة في هذا المجال والصناعة العسكرية والدفاعية الأمريكيّة أن تتوقّع عقوداً سخيّة لإنشاء مشاريع هندسيّة وإنشائيّة جديدة، ومطارات ومواقع صواريخ وقواعد عاملين وبنى تحتيّة مختلفة. وهذا ما دفع أحد الزّعماء السياسيّين الأمريكيين لتوصيف المملكة بأنّها: “البقرة الحلوب التي يمكن حلبها حتى تطلع الشمس على تقاعدنا”.
هذه الخطّة تضمن لواشنطن وحلفائها دوام تدفّق النّفط واستقرار الأسعار حول مستويات يمكن أن تتذبذب ولكنّها تبقى ضمن الحدّ المقبول. فإذا هدّدت بإقامة الحظر دول كـ “إيران، والعراق وأندونيسيا وفنزويلا” سدّت السّعوديّة النّقص بما تملكه من كميّات كبيرة من النفط. وبمقابل ذلك تقدّم الولايات المتحدة الأمريكية للحكّام السعوديّين دعماً سياسياً وأمنيّاً وإمكانيّة استمرارهم كحكام لبلدهم. ولا يمكن للسعوديّة رفض هذا العرض، نظراً لموقعها الجغرافي وافتقارها للقوّة العسكريّة وضعفها أمام جيرانها “إيران، سورية، العراق، إسرائيل” وكان لواشنطن أن تفرض نتيجة ذلك شرطاً حسّاساً آخر هو أن تشتري السعوديّة سندات مالية بمال نفطها تصدرها حكومة الولايات المتحدة، وبالمقابل تنفق دائرة الخزينة الأمريكية فوائد هذه السندات بطرق تجعل السعوديّة قادرة على الخروج من مجتمعها المتخلف إلى العالم الحديث.
وقد لخّص الباحث المساعد في معهد الشرق الأوسط “طومس لِبمَن” ببلاغة النّقاط البارزة في هذه الصّفقة المغرية: (يدفع السّعوديون، الغارقون في المال مئات ملايين الدولارات لدائرة الخزينة، فتحتفظ بالمال إلى حين تحتاج إلى أن تدفعه للباعة والموظّفين. ويضمن هذا النظام عودة المال السعودي إلى الاقتصاد الأمريكي.. كذلك يضمن لمديري اللجنة تقرير أيّة مشاريع يرونها هم والسّعوديون مفيدة بدون الحاجة إلى تبريرها أمام الكونغرس).
ولتحريك العملية وتسهيل عبور الصّفقة بعثت الحكومة شخصاً بمنصب عالٍ في مهمّة سريّة لعله “هنري كيسنجر” ليذكّر السعوديّة بما حدث مع جارتها إيران بخصوص “الإطاحة بمصدّق” حين حاول التخلّص من المصالح النفطية البريطانية. وحين عاد المسؤول إلى بلاده كان يحمل معه رسالة الإذعان السعودي. وفي عام 1975م أُنيط بي كما يقول “جون بيركنز” التّعامل مع واحد من اللّاعبين الأساسيّين في العائلة السعوديّة وهو وليّ العهد السّعودي، وتلخّصتْ مهمّتي بإقناعه أنّ عمليّة غسيل المال السعودي سوف تفيده شخصيّاً هو وبلاده. ولكن الأمير أظهر لي بأنّه وهّابي ملتزم ولا يريد أن يرى بلاده على الخُطا التجاريّة الغربية. ولكن كانت نقطة ضعف هذا الأمير هي “الشّقراوات الجميلات” التي أعطتني المفتاح لترتيب حيثيّات هذه الصّفقة التاريخية.
وما أشبه اليوم بالأمس، هاهي صفقة القرن الحاليّة “بيع القدس لإسرائيل” التي يروّج لها الرئيس الأمريكي “ترامب” وصهره “كوشنير” مع المملكة بمليارات الدولارات، الابنة النّجيبة لتلك الصّفقة المشؤومة في بداية السّبعينات وكان بطلها ثعلب السياسة الأمريكيّة “هنري كيسنجر” كما كان يُلقّب، تُعيد المملكة ثانية إلى الحضن الأمريكي الدّافئ. ويبيع حكّام السعوديّة ضمائرهم القوميّة والإسلاميّة من جديد لعرضها بالمزاد العلني في سوق المال الأمريكيّ “وول ستريت”.
أوس أحمد أسعد شاعر وكاتب سوري
Post Views:
0