الاصلاحية | عناية مركزة |
يتناقل القادمون من إدلب أخبار المدينة الشمالية الخارجة عن سيطرة الدولة، بوصفها مكتظة بالسكان، من الوافدين إليها خلال التسويات الأخيرة. ولمعابر الدخول والخروج حكاياتها التي يعيشها كل العابرين إليها ومنها
وفي هذه الحال يمكن لهم أن يكونوا عيون المهتمين بمتابعة أخبار المدينة التي تسبب ما يكفي من الأسى في وجدان السوريين. المدينة الخضراء… أرض الزيتون، صارت رمزاً للحرب في أقسى صورها. هذا ما يحمله الإدلبيون الداخلون والخارجون، تحت إشراف الحكومة، وأمام أنظار عناصر الجيش. فهل المدينة معزولة حقاً عن الدولة الأم؟ وهل الأهالي راضون بانفصالهم المؤقت عن الأراضي الخاضعة للحكومة؟ أم أنهم في انتظار تغيير ما في واقعهم السيئ؟
مؤن الريف… وسيارات بلا أرقام
من الممكن الانطلاق على الطريق من اللاذقية إلى بلدة السقيلبية، غربي حماة، أولاً. تكلفة الراكب الواحد في الحافلة الصغيرة تبلغ 600 ليرة سورية (أكثر من دولار أميركي بقليل). الوصول إلى المنطقة يبدو سهلاً، غير أن السقيلبية ستكون محطتك الأخيرة، إن لم تكن بطاقتك الشخصية تحمل خانة ادلب أو إحدى بلداتها. عناصر حواجز الجيش سينظرون إليك بريبة. كل شيء هُنا يقول لك: قف! لا يمكنك العبور إلى المقلب الآخر من الحرب القائمة. وكأن المدينة أضحت عالماً آخر، يسكنه أشخاص مختلفون، ولم يكونوا يوماً شركاءك في وطن واحد. لا تشدد الحواجز على هوية الأشخاص كثيراً، ولا تدقيق كبيراً في التفتيش. يكفي أن تكون إدلبياً، ويفضّل أن تكون مع عائلتك. أما العائدون من إدلب، فسيتعرضون إلى التدقيق الشديد، باعتبارهم في رحلة عبور صعب «إلى الدولة».
الوقوف هُنا أمر واجب، غير أنه حافل بالحكايات… حكايات الأهالي الذاهبين والعائدين. تقول أم خالد، الموظفة المتزوجة في اللاذقية، إن تكلفة قطع الطريق من السقيلبية إلى بلدة قلعة المضيق الحموية، الواقعة تحت سيطرة المسلحين تصل إلى 5 آلاف ليرة (حوالى 10 دولارات) للشخص الواحد. وتذكر أن إخوتها ينتظرونها قرب المعبر، ليقلّوها وأطفالها إلى بيت والدها في إحدى بلدات الجنوب الإدلبي. تذهب المرأة لزيارة أهلها في نهايات الخريف، للحصول على المؤن التي تصنعها والدتها، لتمدّ بها بناتها المتزوجات في مدن بعيدة. «أمي لا تنسانا. تعرف الأوضاع المعيشية الصعبة. وهي تزرع كل الخضر الداخلة في مكونات المؤن، التي يعتمد عليها السوريون للتخفيف من مصاريف الطعام شتاءً. ولذلك تجهز لنا مؤننا، فنمضي لزيارتها واستلام حصصنا، إضافة إلى الشوق الكبير لرؤية الوالدين والأخوة والأقارب»، تقول المرأة. وتتابع: «ثمن الكيلو الواحد من الفليفلة اليابسة يتجاوز 6 آلاف ليرة فيما يصل ليتر الزيت إلى 2000، في أرض الخير الزاخرة بالزيت والزيتون. أتسلم سنوياً 25 كيلوغرام مكدوس، بينما كانت عائلتي تستهلك قبل الحرب 40». بحجاب عادي، تمضي أم خالد إلى قريتها. تسأل عن أحوال شبان العائلة. معظم الفتيان من أقاربها مضوا إلى العمل في تركيا، بدلاً من تجنيدهم كعناصر مسلحة، لكسب لقمة العيش الصعبة. تصرّ المرأة الأربعينية أن أهالي الفتيان أرسلوهم إلى العمل في الخارج، لأن البقاء يعني العمل في الأرض، وهو عمل لا يقي من الفقر، أو الانخراط في قتال الجيش، وهو أمر مرفوض بالنسبة إليهم، وفق تعبيرها. وبحسب من تعرفهم في ريف إدلب، فإن معظم أقاربها من المسلحين جاهزون لتسليم سلاحهم، في أي وقت تصل خلاله طلائع القوات السورية المتقدمة من ريف حماة، خلال العمليات العسكرية الجارية. يذكر أحمد، الرجل السبعيني العائد إلى إدلب بعد زيارة قصيرة لأبنائه في حماة، أن معظم السيارات التي يستخدمها سكان الريف هي «من غير أرقام» (لوحات تسجيل). ويضيف: «السيارات هُناك رخيصة الثمن. تماماً كما لو أنك تشترين سيارة من غير رسوم الجمارك المرتفعة». وعند سؤاله عن مصير تلك السيارات فيما لو عادت سيطرة الدولة على إدلب، فإنه يجيب: «لم تكلفنا الكثير، ولذا سنستغني عنها ببساطة».«الناس يأكلون بعضهم»
يتداول الإدلبيون روايات في ما بينهم، منذ سقوط المدينة عام 2015، عن أن انشقاقات بالجملة جرت في صفوف عناصر الشرطة، ومعظمهم أجبروا على ذلك. في حين أن الأهالي سارعوا ليستمدوا شبكات الاتصال من الأراضي التركية، بإضافة أبراج تقوية داخل الحدود، حيث يمكن شحن أجهزة الخلوي ببطاقات تركية، يتم شراؤها من المحال التجارية. وبرغم انتفاء أي من مظاهر وجود الحكومة السورية داخل المدينة، فإن الموظفين ما زالوا يتقاضون رواتبهم التي يوصلها إليهم أبناؤهم الزائرون، بين وقت وآخر. المراكز الصحية والمستشفيات تسير بإشراف مباشر من عناصر «هيئة تحرير الشام»، وبفعل ذلك يمتنع أهالي الريف عن النزول إلى المدينة، إلا حين الضرورة، إذ إنهم متروكون لإدارة شؤونهم اليومية، براحة أكبر في الريف. يذكر أبو حسن أنه احتاج إلى إجراء صورة شعاعية، ما اضطره إلى زيارة المدينة واللجوء إلى أحد المشافي العامة، ومع ذلك دفع ثمن الصورة 4 آلاف ليرة. أما المازوت فيأتي مكرراً بطرق بدائية. يقول الستيني: «يعاني أقاربنا من سد مداخن المدافئ أسبوعياً، بسبب سوء الوقود». ووفق الرجل، فإن نقمة الأهالي على المسلحين كبيرة، وهي تزداد كلما ساءت الأوضاع المعيشية. غير أنه يجد أن الوجود التركي مرحّب به شعبياً، أملاً في تسوية سياسية ما، تخلّص الناس من سيطرة «جبهة النصرة». أما واقع الكهرباء، فهو مأساوي، إذ لا تمد الحكومة السورية المدينة بالكهرباء. وإنارة الشوارع تتم عبر الطاقة الشمسية، في حين يتم تدريس مناهج الدولة، بعد تمزيق كتب مادة «القومية» من قبل عناصر «النصرة». تذكر أحلام، وهي مدرّسة لغة عربية، أن عناصر «الجيش الحر» موجودون في إدلب، إنما لا كلمة لهم على الأرض. وتروي حادثة عن إلقاء «النصرة» القبض على «أمهر قناصي الجيش الحر في إدلب»، ووضعهم في السجن، خشية تسليم أنفسهم للجيش السوري. وتصف المرأة الواقع هناك، بالقول: «لإدلب مجلس مدينة تابع لسيطرة المسلحين. وفي ظل تدفق مسلحين وعوائلهم من مناطق دمشق وحلب، بعد اتفاقات التسوية، فإن الناس يأكلون بعضهم، من الضغط السكاني الهائل». وتضيف: «كلفة الإيجارات في المدينة تبدأ من 45 ألف ليرة، بحسب تجهيز المنزل من الداخل. مولدات الكهرباء بديل عن الكهرباء المفقودة، وسط ارتفاع سعر الأمبيرات». واللافت أن المدينة الواقعة على نهر العاصي تفتقد مياه الشرب، ما يضطر الأهالي إلى شرائها. أما عبوات الغاز، فيصل أجر تعبئة الواحدة إلى ما يقارب 20 دولاراً، فيما يزيد سعر البنزين على 10 دولارات.
من وإلى إدلب
بالإضافة إلى معبر قلعة المضيق، في ريف حماة، فإن معبراً آخر استخدم طويلاً لإدخال المواد الأساسية والمبادلات التجارية، وهو معبر قرية أبو دالي، أقصى الريف الجنوبي. يطلق الادلبيون على القرية اسم «المنطقة الحرة» بسبب غناها بالأغذية والمنتجات التي يتأخر دخولها إلى المنطقة عند أي توتر أمني، ما يفضي إلى ارتفاع الأسعار في إدلب وفقد بعض المواد. بقيت القرية محايدة، تتبع ظاهرياً لسيطرة الدولة، وهي التي تبعد عن بلدة معرة النعمان مسافة 35 كلم إلى الجنوب الشرقي. وعند الاشتباكات في محيطها يتحول معبر أبو دالي إلى معبر آخر عبر مورك ــ صوران، وبإشراف من القوات الروسية الحاضرة في المنطقة.
المصدر: الأخبار