الاصلاحية | ثقافة |
فـي حضرةِ السّؤال :
أوس أحمد أسعد | للسّؤال ،غوايتُه وشراكُه، فهو مفتَتَحُ المعرفة وبهارُها ، ولأنّه سادنُ الضّوء ، وسيّد العتمة نراه .يبشّر بالجواب، ولا يقوله .. يتسلّق الحوافّ دون أن يسقط ، يشاطئ الفلسفيّ والمعرفيّ كما الجماليّ بنفس الشّهيّة على قول المختلف وانتاجه، وعلى شرفته تُغرس بذور الاحتمال أيضاً. عراكُه مع المجهول أشهر من أن يعرّف ، إذْ يُرغمه على الإجهار بمكنوناته ومنظومة الألغاز المحيطة ببهائه،ولذلك هو صنو المغامرة والبحث الوجودي الذي يحكم رحلة الكائن في هذه الحياة. من هنا مكمن خطورته ،في رسم استراتيجيّة الخطاب الثقافي على اختلاف منابعه ،سواء أكان مقولة في الفكرأم في الفنّ، فكيف إذا تزيّا بالثّوبين معاً !.انتباهةُ السّؤال، العالية هذه ،وعتها وتمثّلتْ مدلولات فتنتها رواية ” عندما بكى نيتشه” للكاتب المتميّز / إرفين د. يالوم / ، والتّرجمة الموفّقة لـ “خالد الجبيلي”إصدار منشورات الجمل بغداد، بيروت / . وسؤالُنا هو: إلى أيّ حدّ ينجح العمل السّردي في أن يكون عملاً معرفيّاً مشبعاً بالطّروحات الفكريّة الكبرى،دون أن يخلّ بشروطه الفنّيّة ،ولعبته الجمالية التي تكرّسه كجنسٍ أدبي، متماسك؟.الرغبة تحدونا بأن نترك الجواب للمتلقّي على اختلاف مشاربه،كي يدلي برأيه كما حاولنا بقراءتنا هذه، زاعمين أنّنا لا ننحاز إلى أيّ من الأجوبة المستسهلة والمدرسيّة التي تنتصر لطرف ما دون الآخر. مدركين تماماً لماهية وخصوصيّة العمل الأدبي واختلافه الجذري عن المقولات الفلسفيّة والمعرفيّة عموماً، لأنّ ذلك، شأن الدّراسات المختصّة بهذا الأمر .لكنّنا بنفس الوقت لا نعتقد بوجود عملٍ فنّي أيّاً كانت هويّته ،لا يحمل مقولةً فكريّة أو فلسفيّة أو أيديولوجيّة بطريقةٍ ما تنثال عبر مساماته أوترشحُ من فراغاته ،وتتلطّى خلف سياقه الثقافي عموماً.
الشّخصيّات في المطبخ الواقعي :
ثمّة شخصيّتان محوريّتان،تاريخيّتان،مفعمتان بالدّيناميكيّة / الفيلسوف نيتشه،والطّبيب جوزيف بريوير/ الّلتان حرّكتا مسار العمل ككل. بخطّين متوازيين ومتقاطعين أيضاً.حسب جدليّة المعرفي” النّفسي، الفلسفي” المغلّف بالفنّي ،الذي سلكت مفازاته الرّواية. وأخرى ثانوية،ولكنّها فاعلة كشخصيّة ” لوسالومي” التي أعطت النّبض الأوّلي التّشويقي للسّرد.ليسري دافقاً في عروق النّصّ ،حتّى النّهاية.بتحريضها ،للأسئلة المقلقة داخل الدكتور ” جوزيف بريوير / وقدرتها على إثارة دهشته.ممّا جعله يغيّرأسلوبه الحياتي بشكلٍ شبه كلّي .ويتفرّغ لمعالجة مريضه الاستثنائي. برسالتها المتقشّفة ،الملغزة،الحاسمة التي أودعتهافي مكتبه أثناء غيابه ،تقول :/ يجب أن أراكَ لمناقشة مسألة بالغة الأهمّية وعاجلة. إنّ مستقبل الفلسفة الألمانية على المحكّ.أرجو أن ألتقي بكَ في الساعة التاسعة من صباح الغد،في مقهى ” سورينتو” / . ومريضته ” بيرثا ” والطّبيب المتدرّب ” فرويد” . وهناك شخصيّات ثانوية،بحضورها القليل التي تمّ توظيفه، ضمن الفضاء السّردي لإضاءة جانبٍ ما،.ثمّ احتجبت وبقيت في الظلّ .مثل “ماتيلد” زوجة الطّبيب المعالج، و”بول ري” صديق نيتشه،وصاحب الفندق، و” بيتر غاست” ناشر الكتب و”إليزابيث” أخت نيتشه، ولم ينسَ المؤلّف،أن يؤكّد بأنّ ” نيتشه” لم يلتقِ الطبيب ” جوزيف بريوير” قطّ، ولم يُستنبَط العلاج بالتحليل النفسي من لقائهما.بل كان جنين العلاج بالتحليل النفسي ينمو في تلك المرحلة الزّمنيّة” نهاية القرن التاسع عشر”.هذه هي الفرشة التّاريخيّة للحدث الروائي، والبؤرة التي انطلقت منها خيوط العمل الفنّي.فـ “نيتشه” تعرّف على ” لوسالومي ” عن طريق صديقه” بول ري” 1882م وحاول إقامة علاقة حب عفيفة معها وستصبح أديبة لامعة ومحلّلة نفسانيّة مميّزة وستعرف بصداقتها لـ ” فرويد ” وعلاقتها الرومانسية مع الشاعر الألماني ” رينير ماريا ريلكه” ومعالجة ” جوزيف بريوير” لـ ” بيرثا ” المعروفة باسم ” آنا” أيضاً صحيحة ،وقد تناقش مع ” فرويد” الشّاب المتدرّب، بحالتها كأوّل حالة موصوفة في كتابه ” دراسات في الهستريا ” بقلم ” فرويد وبريوير” حيث شكّل الكتاب آنذاك ثورة في التّحليل النفسي .وبعد أن عولجت على يد الدكتور ” بريوير” غدت اختصاصيّة اجتماعيّة رائدة ، وكرّمتها بعد موتها ألمانيا الغربية عام 1954م. كما سلّط الضوء على شخصيّتها مؤرّخ سيرة ” فرويد” 1953م ” إيرنست جونز” وهنا يبدي المؤلّف استغرابه بأنّه رغم الدور الكبير للدكتور ” جوزيف” بتطوير العلاج النفسي لم يوجّه اهتمامه إلى علم النفس إلّا لفترة قصيرةٍ من حياته المهنيّة واكتفى بالبقاء، باحثاً هامّاً في مجال” علم وظائف النفس والتّوازن” وتشخيص الأمراض .فهو طبيبُ جيل كامل من الشّخصيات العظيمة في ” فيينا” نهاية القرن التاسع عشر.وهوسه الجنسي بمريضته ” بيرثا “حسب الرواية له ما يفسّره بالمعنى العلمي،حيث انّ المعالجة الطويلة التي تحكم علاقة الطبيب بمريضته ورغبته في تمثّل هواجسها وهشاشتها وأمله في شفائها قد تجعله ينسى المسافة الموضوعيّة بينه وبينها، لينمو الجانب العاطفي بينهما ويملأ الفراغ. وهذا ما جعل زوجته ” ماتيلد” تشعر بالغيرة والاستياء .وقد أوضح ” فرويد” لكاتب سيرته ” جونز” مثل هذا الأمر حول تعلّق الطّبيب المعالج بمريضته ،متقاطعاً بذلك مع رأي المحلّل النّفساني ” جورج بولوك ” القائل : بأّنه ربّما كانت لمشاعر ” بريوير” تجاه ” بيرثا” جذور نفسيّة كونه فقد أمّه بسنٍّ مبكرة وكانت تدعى ” بيرثا” .
وثمّة إضاءة أخرى ،لا بدّ منها حول صحّة الفيلسوف ” نيتشة” الحقيقيّة، حيث كان يعاني اعتلالاً مزمناً، طغى على مجمل حياته. أدّى إلى انهياره الكامل عام 1889م. وإصابته بشللٍ حاد. وهو شكل من أشكال مرض الزهري الذي توفّي بسببه 1900م ويرجّح بأنّه كان يعاني إلى جانب ذلك من مرض حاد آخر. رافقه كلّ عمره أيضاً وهو ” داء الشّقيقة ” .وقد استشار الكثير من أطبّاء أوروبا .وربّما أخذ استشارة ما من الدكتور المشهور” جوزيف بريوير” الذي افترض المؤلف لقاءه به . وأنّهما تبادلا الأدوار أثناء المعالجة. حيث ادّعى الدكتور جوزيف بأنّه مصاب بحالة يأس واكتئاب شديد ولا يعرف معنى أو هدف لحياته وطلب من الفيلسوف أن يشفيه. بينماـ غرضه الحقيقي هو أن يجعل ” نيتشه ” يتلمّس مرضه بنفسه .علّه يعترف به ويشفى منه ، وبذلك يبرّر الكاتب الحيل السردية التي لجأ إليها ليجعل مثل هذا اللّقاء ممكناً وليقيم دعائم بنائه الدّرامي مفترضاً بأنّ الفيلسوف لشدّة اعتداده بنفسه وأنفته الشديدة وأناه المتضخّمة العظيمة لن يقبل بأن يكون مريضاً نفسيّاً لدى الدكتور ” جوزيف” حتى مهما كانت شهرته. رغم أنّ العلاج بالتحليل النفسي لم يكن قد انبثق واضحاً 1882م ،وهنا لابدّ من التذكير بأنّ ذكر التواريخ الحقيقيّة ،هو حيلة أدبيّة يلجأ إليها الكتّاب عموماً أثناء رسم المستوى الافتراضي التّخييلي، للإيحاء بواقعيّة الحدث الروائي وتفعيل حالة إقناع القارئ بأن ما يقرأه هو من صلب الواقع وأنّ شخصياّتهم تنتمي إلى أنماط اجتماعية نراها ونصادقها ونحتكّ بها في حياتنا اليوميّة.
هكذا ضبطَ المؤلّف العلاقة بين الفيلسوف والمعالج النفساني بطريقة ذكيّة ،ممرّراً أفكار” نيتشه” المجنّحة ،المبثوثة في ثنايا كتبه.وليحافظ على الاتّساق الزمني قيّد نفسه بذكر أعماله قبل 1882م وخاصة كتبه ” هو ذا الإنسان ، وتأمّلات قبل الأوان، والعجز، والعلم المرح،وافترض أنّ الأفكار العظيمة الواردة في كتابه ” هكذا تكلم زارادشت ” كانت تعاني مخاض الولادة ،وترشح في ذهن الفيلسوف،آنذاك.وكذلك،نثر بعض الأفكار التي تُعتبر تلاقحاً مع الفلاسفة كـ هيجل وسبينوزا وشوبنهور ” كما لم ينسَ التّذكير بنظريّة ” نيتشه ” عن ” العود الأبدي” التي انطلقت من مقدّمات فيزيائيّة صحيحة تتعلّق بطبيعة ” المادة والسّيرورة والزّمن” التي كان يتمنّى لو يسعفه الزمن ليثبتها حسب معطيات العلوم الطبيعيّة .
الشّخصيّاتُ في المطبخ الرّوائي :
بعد التّبادل المفترض للأدوار بين الفيلسوف والطبيب المعالج ،تبدأ الشخصيّتان حركتهما المتوثّبة ضمن الفضاء التّخييلي .ويحاول المؤلف استنطاقَ كوامن الفيلسوف ونبش مخزونه الفكري العالي الحيويّة متوسّلاً حيلة الطبيب المعالج ” جوزيف ” الذي اقترح : / تبادلاً مهنيّاً بأن يعمل طبيباً لجسم نيتشه ويركّز على أعراضه الجسدية،وأدويته. ويعمل نيتشه طبيباً معالجاً لعقل وروح الطبيب المتشائم / فيردّ ” نيتشه ” مشكّكاً : / لا أستطيع أن أعالج اليأس يا دكتور،إنّي أدرسه فقط، اليأس هو الثّمن الذي يسدّده المرء لقاء الوعي الذاتي . تمعّن في الحياة،وستجد اليأس على الدّوام / .يتابع الدكتور قائلاً : / ولكنّك قلتَ إنك تؤمن بأنّ شبح العدمية يلاحق أوروبا،وجادلت بأنّ ” داروين ” اعتبر الإله شيئاً عتيقاً مهجوراً وأنّه كما خلقنَا الإله ذات يوم فإنّنا قتلناه الآن،ولم نعد نعرف كيف نعيش بدون الأساطير الدينية .(…) على الرغم من أنك قد لا توافق على اختياري للعبارات، فأنا أعتقد أن رسالتك تكمن في إنقاذ البشريّة من العدميّة والوهم / (…) أنقذني.لا توجد لدي اعتقادات غيبيّة،أنا غارق في العدميّة، لا أعرف السّبب الذي يدعوني إلى العيش، لا أعرف كيف أعيش / .
أجاب ” نيتشه ” : / أهكذا أسدّد ديني لكَ ؟ (..) أنا لا أكتب للفلاسفة الآخرين،أكتب للقلّة الذين يمثّلون المستقبل (…) سأظلّ وحيداً دائماً.إني أقبل هذا القدر./ .تابع الدكتور ” جوزيف ” هجومه المدروس على الفيلسوف،مؤكداً له بأنّه يبحث عن جمهور،رغم مكابرته وادعائه بأنّه لا يهتم بذلك .مذكّراً إيّاه بالقصّة التي رواها له عن ” هيغل” وهو على فراش الموت ؟ عن الطالب الوحيد الذي كان يفهمه،وانتهى بالقول بأنه لا يستطيع أن يجد تلميذاً واحداً حسناً، لماذا تنتظر إلى سنة ألفين ؟ هاهنا أنا لديك تلميذ الآن ،تلميذ سيستمع إليك،لأنّ حياتي تعتمد على فهمك / كان الدكتور ” جوزيف ” مسروراً بداخله لسير الخطة التي وضعها أمس بعد نقاشه مع ” فرويد” الطبيب الشاب المتدرّب .وهو الآن يجاهد بإخفاء ارتياحه حول اعتراضات الفيلسوف التي كان يتوقّعها .بد له الفخّ متقناً .لكنّه كان يستعجل النتائج لإخبار ” فرويد ” بها .لذلك تابع استطراداته مع الفيلسوف بالقول / أذكر يا بروفيسور نيتشه ،أنّك قلت بأن لاشيء يزعجك أكثر من أن تكون مديناً لشخص آخر دون أن تتمكّن من مكافأته بطريقةٍ موازية / فكان رد ” نيتشه ” سريعاً وحادّاً: ” أتقصد أنّك تفعل ذلك من أجلي؟ ” فقال الدكتور ” جوزيف ” / هذه ليست نيّتي، إنّ دافعي أنانّيّ بحت،إنّي بحاجة إلى مساعدة ،هل لديك القوّة لمساعدتي ؟ / خطَا ” نيتشه ” نحو ” الطبيب ومدّ يده وقال : أوافق على خطّتك / وهكذا أُبرم الاتفاق بينهما على قاعدة متكافئة. وقد رشحت السعادة من ملامح الفيلسوف وهو يشرح لناشره ” بيتر غاست ” الذي هوـ في الواقع ناشر كتبه الحقيقي،بحيث تبدو اللّعبة الفنّية محبوكة،والشّخصيّة الواقعيّة تتحرّك بشكل حيوي ،تلقائي ضمن المحيط السردي للحدث الروائي الافتراضي ـ ما تمّ من اتفاق بينه وبين الدكتور ” جوزيف ” من وجهة نظر المنتصر ،يقول : / أشكركَ لأنّك وجدتَ لي اسم الدكتور،إنّه طبيب عالم، مفكّر يحبّ المعرفة كثيراً،إنّه يريد أن يخبرني ماذا يعرف عن مرضي ” وهنا يقصد نيتشه مرضَه العضوي ،داء الشّقيقة ” والأعظم من ذلك مالا يعرفه،إنّه رجل يتطلّع إلى التّحدّي .وأظنّ أنّه منجذبٌ لجرأتي على التّحدّي كثيراً.وقد تجرّأ وعرض عليّ اقتراحاً غريباً جدّاً،أن أكون الفيلسوف الشّخصي له.،وأقدّم له استشارة فلسفيّة شخصيّة.إنّه يعيش حياة معذّبة ويفكّر بالانتحار.طلب منّي أن أرشده وأوجّهه حتى يخرج من ربقةِ اليأس (…) لكنّنا نعرف مَنْ أولئك المعالجين الكهنوتيّين الذين يُسقطون ضعفهم على الآخرين،ثمّ يعالجونهم كوسيلة لزيادة قوّتهم فقط/ .
وعلى الضّفّة المقابلة لتصوّرات ” نيتشه ” المكابرة، المغرقة في النشوة النّرجسيّة ،كان الدّكتور ” جوزيف ” يفكّر في كيفيّة ترويض مقلع الحجارة القابع في الغرفة رقم ” 13 ” في عيادة “لوزون “. كما كان يصفه.ويستعيد في ذهنه نقاشه مع الطّبيب المتدرّب ” فرويد” حول حالة ” نيتشه ” الدّقيقة،فبالوقت الذي حاول فيه إقناع الفيلسوف بدراسة الإجهاد في حياته والتّخفيف من حدّته، هدم كلّ شيء في دقائق بأنْ امتدح الإجهاد،فهو ينشد ملاحم شعريّة في امتداحه ،وفلسفته بالقول: ” أنّ مالا يقتله يزيده قوّة ” وكلّما استمعَ إليه أكثر وفكّر بكتاباته كلّما ازداد قناعة بأنّه يحبّ أن يعتبر نفسه طبيباً لثقافتنا برمّتها .لا طبيباً شخصيّاً وحسب .
وهاهو يقرّ بأنّه بدلَ أن يوقعه في فخّ خطّته .أوقعه الفيلسوف في شِراكه بتوسّله المثير للشفقة ” ساعدني، ساعدني ” وهذا ما جعلني يا ” فرويد ” أقتنع بأ فكارك، وتحليلاتك حول وجود جزء غير واعٍ في العقل، يتكلّم لوحده في لحظات الانهيار العاصف الذي يلمّ بشخصياتنا أحياناً كما حدث مع ” نيتشه” في نوبة الشقيقة الحادّة التي انتابته .وغاب أثناءها عن الوعي طالباً النجدة والمساعدة .أما وقد حان لقاؤه مع الفيلسوف فقد وجده نشيطاً وقد رتّب أفكاره مسلسلاً إيّاها بدقّةٍ ليناقشه بها ـ تلك الأفكار التي ادّعى الطبيب جوزيف،أنّه يعاني منها ـ قال له ” نيتشه ” بصوتٍ مرتفع : / قلتَ أنّك تعاني من تعاسة عامة، وتراودك أفكار غريبة، ولديك كره لذاتك،وخوف من الشّيخوخة ،وخوف من الموت ،ودوافع للانتحار، هل هذا كلّ شيء ؟ / هنا يهمس الدكتور ” جوزيف ” عبر مونولوجه الدّاخلي :/ سأصف حالته كما لو أنّها حالتي،ثم أدعه يقدّم لي النصح،وبهذه الطريقة يقدّم النصح لنفسه بصمت.هكذا يمكنني مساعدته بأن يشتغل على مثلّثه مع ” لوسالومي، وبول ري ” بأن أطلب مساعدته لي بمثلّثي مع” بيرثا وطبيبها المعالج الجديد /
وتابع ” نيتشه ” تحليله لشخصيّة الدكتور ” جوزيف ” متقمّصاً دور المحلّل النفساني، الذي كان قد ألبسَهُ إيّاه الدكتور دون أن يعي ذلك حتى هذه اللحظة .يقول: / هنا تقول إنّك تعير اهتماماً كبيراً لآراء زملائك (…) لكن هذا ليس حلّاً صحيحاً.لأنّ ذلك يُعدُّ استسلاماً لسلطة الآخرين.إنّ واجبك أن تقبل نفسك، لا أن تبحث عن سبل لتكسب قبولي لكَ / .لاحظ الدكتور ” جوزيف ” حججه العقلانية وأيقن أنّه يملك فكراً ثاقباً وأنّه لن يهزمه لذلك حاول اتخاذ منهج لاعقلاني لعلّه يحرز نتيجة ما !.
ويسترسل ” نيتشه ” بترتيب محاججاته مستشهداً بكتابه ” العلم المرح ” بأنّ العلاقات الجنسيّة لا تختلف عن العلاقات الأخرى في أنّها تنطوي هي أيضاً على صراع من أجل السلطة. ففي جوهر الشهوة الجنسية تكمن ميزة الهيمنة التّامة على عقل وجسد الآخر (…) وأنّه يكره الرجل الذي يستجدي الجنس فهو يتخلّى عن قوّته للمرأة الماكرة التي تحوّل ضعفه وقوّته لصالح قوّتها .ومسؤوليتنا هي قبل أن نتكاثر ،أن نفكّر بإنشاء مخلوق أعلى، أن ننشئ بطلاً في داخلنا أوّلاً، فروح الإنسان تكمن في اختياراته،فإذا قتلنا المقدّس،فعلينا مغادرة ملاذ المعبد، وإن اخترنا العلم فعلينا أن نتحرّر بشجاعة من السلاسل المسكّنة للعالم الغيبي . ثمّ ،لماذا الفلاسفة العظماء كئيبون ولا يشعرون بالأمان،بينما من يشعر بالراحة والبهجة هم عامة الناس والأطفال ؟ / . يقاطعه الدكتور” جوزيف ” مستفزّاً ،لكنّك تقول أنّ النمو هو مكافأة الألم،فيردّ عليه : / لا ليس النّمو فقط،، بل القوّة أيضاً .فالشجرة بحاجة لطقسٍ عاصف لكي تصبح سامقة.والإبداع يولد من الألم.يجب أن يكون في داخل المرء فوضى وجنون مؤقّت حتى يلد نجماً راقصاً./ وهنا فكّر الدكتور ” جوزيف” بأنّ عليه لكي تأخذ الخطّة مجراها الصّحيح أن يحاول إنزال ” نيتشه ” من النجوم إلى أرض الواقع .
اكنس المدخنة أيّها الفيلسوف :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لابدّ من ذلك،لتهوية الدماغ وتطهير العقل من جميع الأفكار المزعجة لا بدّ من ” كنس المدخنة ” الممتلئة بالسّخام.تلك هي روح ” نيتشه ” الملتاثة بالضّجيج والتوثّب العقلي والتّناقض .لقد تقمّص دوره تماماً ، وهذا ما أزعج لوهلة الدكتور ” جوزيف ” صاحب خطّة العلاج.حين رآه بأسلوبه الرقيق في العيادة،مختلفاً تماماً عن أسلوبه الحادّ في كتبه.وهنا يوضّح ” نيتشه ” سبب حدّة فلسفته ببساطة ووضوح شارحاً سبب عزلة المفكّر ووحدته المزمنة بقوله : / إنّه ليس لغزاً عظيماً،فإذا لم يكن هناك من يستمع إليك ،فمن الطّبيعي أن تصرخ (…) ولعلّ مشكلة الفلاسفة مثل ” كانط وهيغل” هي بالأسلوب الأكاديمي الذي يكتبون به في حين أنّ المطلوب هو الكتابة عن الحياة من أجل الحياة.فأهمّ الحقائق هي تلك التي تُستخلَص من تجربة حياة الفرد / .هنا يبرز تناقض ” نيتشه ” الحاد في طرح أفكاره.فهو قبل أن يعجبه تقمّص دور الطبيب المعالج لمشاكل الآخرين كان يرفض مشكلة التّطبيق ويتّهم الآخرين بأنّهم لا يفهمونه،وأنّهم غير جديرين بإضاعة الوقت معهم،ومن سيجد طريقه إلى فلسفته هم فقط المتفوّقون ولو بعد مائة سنة ، وهاهو الآن يلوم الدكتور” جوزيف ” لانهماكه بأمر مريضته ” بيرثا” إذ أنه من الضّروري أن يبحث في قمامة عقله، وينتبه لهفواته ،غير مدركٍ بأنّه هو الآن من يبحث في القمامة ذاتها ،طوال الوقت .وفي التفاتةٍ نحو الفيلسوف ” غوته ” مؤلّف ” آلام فرتر” يبرّر” نيتشه ” فلسفته الخاصّة بالقوّة، قائلاً :/ هل تعلم أنّ ” غوته ” حين وجد أنّ عدداً كبيراً من الشّباب انتحروا متشبّهين بـ ” فرتر” كتب في طبعتها الثانية ” كن رجلاً ولا تتبعني، بل اتبع نفسك ! ” .وهذا ما حاولت أن أقوله لكَ يا دكتور ” جوزيف ” أن تجد مسافة بينك وبين مشاكلك وأن تنظر إلى نفسك من مكانٍ عالٍ وبنظرة شاملةٍ حينها ستخفّف من حدّة مأساتك وتشاؤمك.فحين نعلو ونرتقي سنجد أنّ مأساتنا ليست بهذه الضّخامة “.
وزيادة في الحبكة والتشويق يتظاهر الدكتور” جوزيف ” بالانزعاج من خطاب الفيلسوف المنطقي معترفاً بأنّ المسألة بالمستوى الفكري تبدو صحيحة ولكنّها بالمستوى العاطفي أعمق وأعقد.وأنّ برأيه،هنا تماماً تكمن مشكلة الفلسفة، وأحد عيوبها من حيث التّطبيق.فمثلاً نستطيع أن نردّد حكمة ” لو كرنتيوس ” :/ حيث أكون لا يكون الموت،وحيث يكون الموت لا أكون أنا / .أمّا حين أكون خائفاً فهي لا تنفع أبداً .لقد وصل الدكتور ” جوزيف ” إلى لبّ المشكلة مع الفيلسوف حين تمكّن من جعله يرى مشكلته الذّاتيّة ،بعلاقته التي تعقّدت مع مثلثه ” لو سالومي، وبول ري ” محقّقاً انتصاره التّحليلي، الذي سنتلمّسه من خلال سرده لعلاقته تلك بسلاسة ويسر ،يقول الفيلسوف : / عندي صديق يدعى ” بول ري” فيلسوف يؤمن كلانا بأنّ الله (…) ،ولكنّه مع ذلك توصّل إلى نتيجة بأنّه لا معنى للحياة بدون الله.وأصابه كرب شديد ،وبدأ يفكّر بالانتحار،بينما أنا أرى بأنّ عدم الإيمان هو مناسبة للابتهاج،إنّي استمتع بحرّيتي،أقول لنفسي،ماذا يمكن أن يكون هناك للخلق لو كانت هناك آلهة ؟ أترى ما أقصد ؟ الحالة نفسها،المعلومات ذاتها، ليست سوى حقيقتين /.يتابع الدكتور” جوزيف” تحريضه لذهنيّة “نيتشه ” المشعّة بمثال من حياته المهنيّة مستذكراً إحدى مريضاته المسنّات وكانت قابلة قانونيّة ومريضة قلب ووحيدة لكنّها كانت مشغوقةً جدّاً بالحياة،وتقول أنّها تستمدّ تلك الطّاقة من اللّحظة التي ترفع فيها مولوداً جديداً صامتاً،وتصفعه صفعة الحياة،حيث تجد حياتها حينئذٍ تتجدّد من تلقاء ذاتها،وهي تنغمس في هذه اللّحظة / اللّغز الممتدّة بين الوجود والنّسيان .فيسترسل الفيلسوف في سرد مشاكله الداخلية وفكفكة هواجسه ،ومنغّصات حياته ومسؤوليّاته العائليّة التي تعرقل نمو أفكاره وتمنعها من الانبثاق.فيقول ممتدحَاً الألم العضوي ،إذا ما قورن بالضّغوطات الاجتماعيّة المرهقة : / هل توجد فوائد في أن يصاب المرء بالشّقيقة؟ إنّه سؤال وجيه وللأسف سيكتب التاريخ والأصدقاء والعائلة بأنّ هذا المرض هو من جعلني أستقيل من مركزي الأكاديميّ في الجامعة،لكن العكس هو الصّحيح،إنّ وظيفتي الأكاديميّة كانت أشبه بحكم إعدام فهي جوفاء وفارغة لأنّها ستحكم عليّ طوال حياتي بأن أبقى هكذا أُعيل أمّي وأختي،كنتُ محاصراً حتى الموت / . وينعطف مسار الدكتور ” جوزيف ” باستنطاق الفيلسوف إلى مسارب أخرى محاولاً استكشاف ذاك الإرث التّربوي الذي جبلَ طفولة ” نيتشه “،فيقترح عليه زيارة “مقبرة ” العائلة ، واضعاً إيّاه وجهاً لوجه أمام سؤال الوجود الفارق ،محاولاً أن يبدو كمن يدافع عن نفسه تجاه تشكّك الفيلسوف المحتمَل بقناعاته الغيبيّة،يقول له : / أزور المقبرة لا بسبب الخرافة أو الخوف ومن المؤكد لا بسبب الأمل أو الجزاء، فيما بعد.فمنذ طفولتي أؤمن بأنّ الحياة هي شرارة بين فراغين متماثلين هما الظّلام قبل الولادة والظّلام بعد الموت / .فيردّ ” نيتشه ” بأنّ المقبرة تجعله يشعرُ براحة في النّفس كاشفاً بأنّ والده كان ” قسّاً لوثريّاً ” وبأنّ باحة الكنيسة في القرية كانت ملعبه.ويستفسر بشكلٍ مفاجئ من الدكتور إن كان قد قرأ مقالة ” مونتغن ” عن الموت التي ينصح بها بإقامة غرفة لها نافذة تطلّ على مقبرة،زاعماً بأنّها تجلي عقل المرء وتجعل أولوياته واضحة. وهنا استنبط الدكتور بأنّه كلّما صمت أكثر ولم يجب،كلّما جعل ” نيتشه ” يتكلّم أكثر عن نفسه .فهو مازال يؤكّد أنّ تلامذته لم يولدوا بعد.وهو لا يكتب للعامّة.فيقاطعه الدكتور بقوله : / ولكنّك يا فريدريك بحاجةٍ لجمهور!/ فيجيبه : / ربّما يوجد في داخلي جيوب من الغرور تنتظر أن تتطهّر / . وبينما كانا يعبران المنحدر كاد الدكتور يتزحلق فوضع ” نيتشه ” يده وراءه منعاً من الانزلاق .
عندما بكى نيتشه :
ـــــــــــــــــــــــــ
هكذا نجحَ المحللّ النفساني في أن يجعل الفيلسوف صديقه. يسرّ إليه بكلّ ما يقلقه، ظانّاً بأنّه يعالجه من يأسه المزمن.هاهو يقول له بخصوص فكرة الموت : / الموت يفقد رعبه،إذا مات المرء بعد أن يكون قد عاش حياته بالكامل، أمّا إذا لم يعش المرء في الزمن الملائم،عندها لا يستطيع أن يموت في الوقت المناسب، لذلك ” متْ في الوقت المناسب ” / .ويؤكّد ” نيتشه ” بأنّ عليه أن يعيش حياته بشكلٍ مختلف،ولن يخبره كيف.لأنّه يرغمه بذلك أن يحيا حياة قد صمّمها له شخصٌ آخر.لكنّه يستطيع أن يقدّم إليه زبدة أفكاره التي استفاض بها في كتابه ” هو ذا الإنسان ” . سيقدّمه له عربون صداقة وهديّة.فهذا الكتاب بالنسبة إليه بمثابة القوّة الموجّهة لكتابه التّالي،وربّما لجميع كتبه في المستقبل.ولكي يستثمر قربه الذي تحقّق مع الفيلسوف،استحضرَ الدكتور ” جوزيف ” تجربته الحلميّة” تلك التي تخلّى من خلالها عن كلّ ما ينغص حياته بما فيه عائلته التي شكّلت عبئاً نفسيّاً كبيراً عليه .وهاهو يتحرّر منها ليعيش مع ” بيرثاه ” وحريّته الشخصيّة كما يحلو له ،مطلقاً أسراب الحمام المأسورة في الأقفاص لديه،متقمّصاً أفكار الفيلسوف عن حريّة الخيارات الشخصيّة في الحياة،لا تلك المعلّبة والمسبقة الصنع التي يقرّرها الآخرون للشخص.وقد صارح زوجته ” ماتيلد” بأنّه كان يحيا معها في قفص زوجي،قدري كحماماته المأسورة،التي حرّرها لتحلّق عالياً في فضاءات الحريّة،مستخلصاً المقولة التّالية : / شيئ واضح بالنسبة لي ،هو أنّه من المهمّ ألّا تدع حياتك تعيشك.وإلّا فإنّك حين تبلغ الأربعين من العمر ،فإنّك ستشعر بأنّك لم تعش حياتك حقّاً.ماذا تعلّمت؟ ربّما تعلّمت أن أعيش الآن (…) ولعلّ الطّريقة الوحيدة لإنقاذ الزّواج تكون بقدرة التّخلّي عنه.ولكن هذا كلام تثقيفي رائع بالنسبة لشخص عازب ،لكنّه مشكلة كبيرة لرجل متزوّج ،إنّه أشبه بمحاولة بناء سفينة في عرض البحر/ .هذا ما طرحه الطبيب على مسامع الفيلسوف .فما كان من الأخير سوى الاعتراف مطمئنّاً أمامه بسرد علاقته مع ” لوسالومي ” التي كان ينكرها سابقاً قائلاً : / اسمع اعترافي يا صديقي ،قبيل عدّة أشهر،بدأتُ علاقة قويّة مع امرأة روسيّة شابّة،رائعة تدعى ” لوسالومي ” قبل ذلك لم أسمح لنفسي أن أُحبّ امرأة،ربّما لأنّ النساء غمرنني في وقت مبكر من حياتي،فبعد أن مات أبي أُحطتُ بنساء بعيدات باردات: أمي وأختي وجدّتي وعمّاتي ,لابدّ أنّه حدثت بعض المواقف الضّارّة العموميّة .لأنّني بدأت منذ ذلك الحين أنظر بفزع إلى أيّ اتصال مع امرأة. يبدو لي أنّ لحم المرأة لا يثيرني على الإطلاق،بل يشكّل عائقاً بيني وبين رسالتي في الحياة.أمّا ” لو سالومي ” فقد كانت مختلفة ،أو هكذا خُيّل إليّ.مع أنّها جميلة فقد بدت صديقة روحي أيضاً،توأم عقلي.كانت تفهمني،تشير إلى اتجاهات جديدة ،نحو مرتفعات تثير الدّوار.لم تواتني الشجاعة من قبل لاكتشافها.ظننتُ أنّها ستكون تلميذتي،تحت رعايتي، لكن الكارثة وقعت بعد ذلك.فقد انطلقت شهوتي.استخدَمَتهَا لكي تتلاعب بي ضدّ” بول ري ” صديقي الذي عرّفها عليّ في البداية ،جعلتني أعتقد أنّني الرجل المقدّر لها،لكن عندما تقدّمتُ إليها رفضتني.لقد خدعني الجميع هي و ” ري ” وأختي التي حاولت تدمير علاقتنا.لقد تحوّل كلّ شيء إلى رماد،وأصبحتُ أعيش في غربة مع جميع من كنت أعتبرهم أعزّاء عليّ ذات يوم / .هنا تدخّل الدكتور جوزيف ،ليكمل ثغرات الحديث وليعطيه المحرّضات اللازمة لمتابعة سرده .بالقول : ” ألمحتَ إلى ثلاث خيانات ،ما هي؟ ” فيردّ ” نيتشه” كا لمسرنم :/ الأولى مع ” فاغنر” وقد تلاشت تلك اللّدغة الآن والشّخصان الآخران هما ” لوسالومي، وبول ري ” ،نعم لقد ألمحتُ إليهما ،لكنّي ادّعيتُ بأنّني تمكّنتُ من حلّ الأزمة.فقد استولت هذه المرأة ” لو سالومي ” على عقلي وقبعت فيه،في معظم الأوقات أكرهها.أفكر في إذلالها،وفي بعض الأحيان،يحدث العكس ،إذ أشتاق إليها،أريد أن أمسك بيدها ،أن نذهب في نزهة بالقارب في بحيرة” أورتا ” أن نحيي شروق الشمس في بحر الأدرياتيك معاً / . ولكن الدكتور ” جوزيف ” وقد ارتاح لمجمل اعترافات ” نيتشه ” لن يدع له مجالاً للتملّص والانفلات ثانية قبل أن ينطق بكلّ شيء .لذلك تابع استفزازه وصدمه .لكي يجعله يتشكّك بتهيّؤاته عن علاقته العاطفيّة بـ ” لو سالومي ” فرشّ المزيد من الحبوب ليلتقطها ،عبر الإيحاء إليه بالتّشابه بينهما بخصوص علاقتهما العاطفية هو بـ ” بيرثا ” مريضته التي شعر بمشاعر خاصّة تجاهها وكان قد أدانه بذلك ” . ونيتشه ” بـ ” لوسالومي ” وهاهو يهتف به صارخاً : / إنّها بيرثاك / فيعترف الفيلسوف دفعة واحدة : ” نعم إنّها بيرثاي ” ،عندما كنت تصف هوسَك،عندما كنت تحاول استئصاله من تفكيرك،عندما كنت تحاول فهم معناه،كنت تتكلّم عنّي أيضاً .كنتَ تقوم بعمل مزدوج : هوسي وهوسك .كنتُ أختبئ كالمرأة،ثمّ أزحفُ بعد أن تغادر وأضع قدمي فوق آثار قدمك، وأحاول أن أتبع دربك،ومن شدّة جبني كنتُ أجثم خلفكَ وأتركك وحدك لمواجهة الأخطار والإهانات التي تعترضكَ / كانت الدموع تسيل بهدوء على خدّي ” نيتشه ” فيسارع لتجفيفها بمنديل.لكنّ الطبيب الذي يلهث وراء كلّ اعتراف من الفيلسوف ليسحب متوالية الاعترافات الأخرى ،يلقي قنبلته الأخيرة في وجهه،لينتزع كلّ الحقيقة من خفاياه بالقول بأنه سيكون هو الشّخصيّة الرابعة التي تخونه وبأنّه كان يعرف ” لو سالومي” التي أتته ذات يوم إلى مكتبه وكان غائباً وتركت له رسالة غريبة،موقّعة باسمها. كشفها أمام ” نيتشه ” المندهش،ليراها. هنا انقبض ” نيتشه” كالملسوع،لكن الطبيب عاجله بالمزيد من المكاشفات،مفصحاً عن خطّته وفخاخه دفعة واحدة هو الآخر. بالقول: / في البداية كانت خطّتي تكمن في إقناعك أن أؤدّي دور المريض المتعاون ثمّ أقلب الأدوار شيئاً فشيئاً،لكن المفارقة الحقيقية حدثت عندما أصبح زعمي بأنّني مريض حقيقة/ وهنا يعترف الطبيب المعالج بأنّه كاد يفقد الإمساك بخيوط خطّته لشدّة تقمّصه لشخصيّة ” نيتشه” وقد تأثّر حقيقة بعمق أفكاره وحاول جاهداً أن يضع مسافة موضوعيّة بينه وبينها وتأتي تجربته الحلميّة ضمن هذا السياق،حيث بدأت الأسئلة تتناهشه بجدوى حياته الرّوتينية، بينما الزمن والشيب يغزو جسده وشعره،فيهتف صارخاً ،من أنا؟ رغم كل الشهرة والإنجازات الطبيّة التي حققّها. باختصار كاد التّخييل يصبح حقيقةـ وهنا يُحسب للمؤلف قدرته وثقافته وتوليفته الفنّية السرديّة المشبعة بأفكار الفيلسوف والمحلّل النفساني ،دون أن يفقد السرد طاقته الفائقة على الإقناع والتّشويق ـ ولكن سرعان ما عادت الأمور إلى طبيعتها في فكّ أقفال العقل واعتراف كلّ منهما للآخر بخطّته .يقول ” نيتشه ” : / آخ، وراء كلّ شيء تقبع ” لو سالومي ” في وضعيّتها المفضّلة.وهي تمسك بالرّسن بيد وبالسّوط باليد الأخرى،تتحكّم بكلينا.لقد حدّثتني عن أشياء كثيرة،يا جوزيف،لكنّك لم تذكر منها شيئاً واحداً، وهو أنك طبيب مشغول كثيراً،لماذا فعلت ذلك،لماذا وافقت على أن تفعل ذلك ؟ / .يردّ الدكتور ” جوزيف” ” لا أعرف جواباً إلّا أن أقول ،حتّى أُرْضِي ” لوسالومي ” بطريقة ما فتنتني، ولم أتمكّن من رفض طلبها /.فاعترف الفيلسوف بأنّ لها نفس التّأثير عليه: / مشيتها الإمبراطورية،إنه لا تبالي بالمشاكل التي تتعرّض لها،ولا شيء يقف في طريقها / وهنا عاد الدكتور لتذكّر تجربته الحلمية ثانية وكيف تخيّل مريضته ” بيرثا” تتغنج وتتثنّى بين يدي الدكتور المعالج البديل له ،وبأنّ ذلك قد ساهم في إلغاء تأثيرها على حياته وهاهو سيطبق الأمر على الفيلسوف كمحاولة منه لتخليصه من هوسه بـ ” لوسالومي ” فليس ما يحتاجه معه جدلاً فكريّاً فلسفيّاً يعلم سلفاً أنه سيكون خاسراً به ،حتى لو ربح ،فـ ” نيتشه ” محاججٌ كبير لا يُشقّ له غبار،وهو قادر على فلسفة أفكاره العميقة وإقناعك بها مهما بدت متناقضة، وما يحتاجه الطّبيب هو تشكيك مشابه بشخصيّة ” لوسالومي” ،بمشيتها، بصدقها، بعفويّتها،حتى يكنس آخر السّخام الرّاشح من مدخنة عقله وعواطفه.لذلك يسارع بصدم الفيلسوف قبل أن يستفيق من تداعياته .فحين يقول ” نيتشه” : / لقد ضاع ،سُحق كل شيء.أصبحتُ أعرف أنني فقدتها إلى الأبد / يقول له مشكّكاً في امتلاكه لها أساساً: ” ولكن ،يا فريدريك، يجب أن يسبق الامتلاك، الفقدَ ” .لكن الفيلسوف لا يستسلم ،بل يتابع مقاومته بلهجةٍ رومانسية مستعيداً لقاءه بـ ” لو سالومي” في لحظة غروب شمس ذهبي،فهي اللّحظة المقدسة الوحيدة التي عرفها في حياته،حين لامسها بحنانٍ وقبّلها.هنا يلتقط الطبيب اللحظة بطزاجتها ليقول له بقساوةٍ مقصودة،مبرّراً ذلك بأنه لو فقد هذا الخيط الآن، فلن يستطيع مساعدة الفيلسوف بالتّخلّص من أوهامه ،فيقول متسائلاً :” وهل كانت هي أيضاً تعتبرها لحظةً مقدّسة؟ لقد تحدّثتْ بالتّفصيل عن كلّ شيء ولكنّها يا ” نيتشه” لم تتذكّر تلك اللحظة،ولم تتذكّر إن كانت قد قبّلتَك ” هنا صمت الفيلسوف تماماً وتوقف عن استرساله وقد أخذته الصّدمة بعيداً .لقد تعرّى من آخر وريقات التّوت .واغرورقتْ عيناه بالدموع،ثمّ أطرق برأسه إلى الأرض.لكن الطّبيب المجتهد في عدم الإفساح لأيّ جزء من خطّته بالفشل تابع وخزه المؤلم بالقول له: / سامحني على كلماتي القاسية يا فريدريك، لكنّي أتبع نصيحة معلّم عظيم تقول: قدّم لصديق يتألّم مكاناً مريحاً،لكن احرص على أن يكون سريراً صلباً أو سريراً صغيراً /.وكمن يقرأ في نصّه الداخلي عبر مرآة نفسه،قال الفيلسوف : ” هل تعرف أنّه لم تلمسني امرأة قط؟ لم أُحبّ،أو أُلمَس؟ أن تعيش حياة لا يلحظك فيها أحد،هل تعرف ماذا يعني ذلك؟ نعم يا جوزيف كنت محقّاً في تفسيرك ” لا مكان ” لا أنتمي إلى أيّ مكان.لا يوجد عندي بيت،لا يوجد لديّ أصدقاء، لا توجد خزانة مليئة بأغراضي، لا موقد عائلي….”. ثمّ أضاف مستشهداً ومستجيراً بنظريّته الموسومة بـ ” العود الأبديّ ” :/ على الرغم من شجاعتي بأنّني سأكون الفيلسوف المشهور بعد موتي،حتى بعد معرفتي بـ ” العودة الأبديّة ” تراودني فكرة أنّني سأموت وحيداً.هل تعرف كيف يبدو ذلك عندما تموت؟ أن لا يُكتشف جسدُكَ إلّا بعد أيّام ،أو أسابيع ، بعد أن تدلّ الرّائحة على وجود شيء غريب؟..الوحيدة التي ملأت وحدتي هي ” لو سالومي ” ./ هنا تماماً ترسّخت قناعة الطبيب ” جوزيف ” وعلا أمله بأنّه يستطيع حقيقة أن يكون المعالج النّفساني للفيلسوف المتمرّد على كلّ شيء، وصاحب التأثير الكبير على الأجيال .سيعالجه من اليأس .وهذا ما تأكد له باعتراف ” نيتشه” ذاته،قائلاً : ” بفضلك أصبحتُ أعرفُ أنّ ” لو سالومي ” كانت مجرّد وهم “.ولكي يخفّف من هواجسه ويبعده قدر الإمكان عن الانزلاق في الوحدة قال له مواسياً : / يمكن يا فريدريك،من أجل البحث عن الحقيقة،ألا يتعيّن علينا نحن العلماء،أن ننبذَ الأوهام ؟ /.فيصرخ ” نيتشه ” كالملدوغ ” الحقيقة ! ” أنسيتَ يا جوزيف ،أنّه يجب أن يتعلّم العلماء أنّ الحقيقة ،هي وهم لكنّه وهم لا يمكننا أن نعيش بدونه.لذلك سأتخلّى عن ” لوسالومي ” من أجل وهم آخر مجهول”. يستحثّه الطبيب من جديد لقول المزيد : ” فكّر بها ” ،دع الصّور تظهر أمامَكَ،ماذا ترى ؟ فيردّ عليه : / أرى نسراً بمخالب دامية،قطيع ذئاب تقوده ” لوسالومي ” وأختي وأمّي ” .يستفسر الطبيب مجدّداً مستغرباً رأيه المشوّه بالمرأة : / مخالب دامية ،لكنّها طلبت مساعدتَك ؟/ يكابر” نيتشه” قائلاً: ” ليس من أجلي،ربّما من أجلها هي، للتّكفير عن ذنبها ” فيقول الطبيب: / لا أظنّ أنّها ممّن يشعرون بالذّنب !/ فيردّ الفيلسوف : ” إذاً من أجل ” الفن” هي تقدّر الفنّ،إنّه شيء غريب،فقد التقيتها منذ تسعة أشهر تقريباً وأشعرُ الآن بأنّ عملاً عظيماً بدأ يأتي بسرعة.لقد بدأ ابني ” زارادشت ” يتحرّك لكي يولد.ربّما بذرتْ قبلَ تسعة أشهر بذرته،في شقوقِ دماغي،ربّما كان ذلك قدرها: تلقيح عقولٍ خصبةٍ بكتبٍ عظيمةٍ / . وفجأة نزعَ ” نيتشه” نظّارته ودفن وجهه في منديله ،وأجهشَ في البكاء .وسرعان ما طرأت ببال الطبيب فكرة غريبة،فقال له : / أرجو أن تحاول التجربة معي،هل يمكنك أن تتخيّل أنّه يوجد لدموعكَ صوت ؟ اجعل لدموعك صوتاً ،ماذا تقول يا نيتشه؟ / ردّ الفيلسوف : ” لو كانت إحدى دموعي تحسّ لقالت بهمسٍ مسموع : أخيراً بدأ الرجل ينظّف بيته.آه كم كنتُ أرغبُ في أن أهربَ من قبل،لكن لا يوجد مخرج،ليس قبل أن يفتحَ هذا الطّبيب الفيينّي ” البوّابة الصّدئة ” يردّ الطبيب قائلاً: / ” فاتحُ البوابة الصّدئة ” مديحٌ رائعٌ،الآن،بصوتكَ العادي حدّثني عن الحزن القابع وراء هذه الدموع / يردّ عليه :” لا ليس الحزن،على العكس،شعور قويّ،مؤثّر،لحظة مقدّسة ! لهذا السّبب بكيت، ولهذا السّبب أبكي الآن،لم أفعل ذلك من قبل..والغريب أننّي في اللحظة التي كشفتُ فيها للمرّة الأولى في حياتي،عن وحدتي بكلّ عمقها ويأسها،تلاشتْ الوحدة . وبعد صمتٍ قصير قال: لديّ اعتراف آخر،إنّه الأخير : عندما دخلتَ إلى غرفتي اليوم يا دكتور ” جوزيف ” وقلتَ لي أنّكَ تحسّنتَ،شعرتُ بالإنهيار.كنتُ في غاية التّعاسة،لأننّي فقدتُ سببَ وجودي معكَ،هذا النّوع من الأنانيّة لا يُغتفَر ” .أجاب الطبيب مشجّعاً : / بل يُغتفَر،لأنّك تحرص على أن تشاطرني إيّاها الآن، إنّ أمنيتي قبل أن أفارقكَ يا صديقي العزيز هي أن تحذف كلمة لا يُغتفر من قاموسكَ / .ثمّ يلحّ عليه بدعوته لاستضافته في بيته المدّة التي يرتأيها قائلاً له : / تذكّر الحلم : موقدك في بيتي /. لكنّ ” نيتشه” المتطهّر،المغسول الرّوح ينهض واقفاً ويقول: ” لا يا صديقي،إنّه قدري هو أن أبحث في الجانب البعيد من الوحدة،إنّ ابني ” زارادشت ” سيكون ناضجاً بالحكمة،لكن رفيقه الوحيد سيكون نسراً،سيكون أكثر الرجال وحدةً في العالم ،سأبقى وحيداً،لكن يا له من فرقٍ رائعٍ أن أختار ما أفعله: اختر قدرَكَ،ثمّ حبّ قدرَكَ ” .في عصرِ ذلك اليوم،استقلّ المريض ” إكارت موللر” الذي استقرّ في الغرفة ” 13″ من عيادة ” لوزون”،الاسم المستعار لـ ” فريدريك نيتشه” القطار وسافر وحيداً، حاملاً بيته ،سفينته المتنقلة ،عندما يسوء الطقس يرفعه ، إلى سماوات أكثر علوّاً. ذهب إلى إيطاليا،حيث الشّمس الدافئة والنّسيم العليل.لموافاة موعده مع نبيٍّ فارسيٍّ يدعى ” زارادشت” .
في الزّمكانيّة،الامتاع،الإقناع، العنوان :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إنّ العمل الجيّد هو عمل غير مكتمل بالضّرورة .لأنّه يبقى مهجوساً بنقصه وفراغاته التي تنتظر من القارئ الذّوّاقة أن يملأها وذلك عبر طريقته التّفاعليّة ،في نبش مخزون النصّ، واستنطاقه بما هو ضنين عن البوح به .حيث للقراءة فعل الكيمياء بتذويبها للعناصر ،وإعادة انتاجها من جديد .ولذلك النصّ الحيوي هو نصٌّ ثّريٌّ قابلٌ للقراءات المتعدّدة،لأنّه محكوم باللّاكتمال الأبدي.حيث يرغمنا دوماً على الوقوف والتأمّل بالمقروء أو ما يسمّى بـ “تعليق القراءة” وهضم الحروف واجترارها عبرعمليّة صهر متواصلٍ لاستخلاص عصائرها. وقد قالها يوماً المفكّر ” هشام شرابي” : / الآن عرفتُ ما الذي عناه ” نيتشه” بقوله أنّ القراءة هي فنّ المضغ الذي لا تجيده إلا البقرة / .حقيقةً لا أجد نفسي مهما ادّعيتُ الموضوعيّة إلا وأمتدح عمل المؤلّف الذي أضاف لذائقتنا الكثير. سواء على المستوى المعرفي أو النفسي أو الجمالي ،لقد أبحر بأسلوبه الرشيق في عوالم وفضاءات شاعريّة،رؤيويّة ،شاقوليّاً وأفقيّاً .ولم تنقصه التّوليفة الذكيّة الواعية بأنّ ما يقدمه هو وجبة فنيّة بالدرجة الأولى ولم يتناسَ شروط العمل الروائي السرديّة حيث كثرت المفارقات المحرّضة للسؤال والدّهشة بل ،للإيغال فيهما. دون أن يفقد حسّ الأدبيّة القائم على تطويع اللغة، بما يخدم مسار وفكر الشخصيّات المنسوجة بدقة لا تنافر فيها ضمن النسيج الكلّي للنص مع توفّر عال لميزتي الامتاع والإقناع والحبكات المدروسة،والقفلات المنحوتة بمهارة عالية والتبئير المتوالي، المولّد للأفكار الفلسفية والنفسية المبثوثة ضمن حنايا السرد وتلافيفه .بحيث كلّما اعتقدت بأنّك التقطتَ فكرة العمل المسرود ،تراها تفرّ أمامك كغزالة تائهة. لتسلمك إلى أخرى تعتقدها ثانية هي بؤرة العمل ككلّ وهكذا دواليك .ولعلّ هذه الطريقة الديناميكية في السّرد بخلقها الكثير من الفجوات المعرفية لدى القارئ ،تحرّض لديه أثناء فعل القراءة أنزيمات الكشف وتعمّقها،كمحاولةٍ منه لردمها،وملئها.عبر الغوص العفوي في متعة السرد وجماليّاته الممسوكة باتقان لكشف المزيد من خباياه .فالطريقة التّشويقيّة التي استخدمها المؤلّف بإكثاره من المفارقات والصّدمات، عبر إثارة الفيلسوف وتحريضه على كشف مخزونه الفكري،وقلبه للأدوار بين الفيلسوف والطبيب النفساني.ومن ثمّ إعادته كلّ شيء إلى وضعه الطّبيعي بعد أن اتّضحت الحقيقة وانجلت أمام عيني الفيلسوف. أوضحتْ لكليهما كما للقارئ اللّبيب،معادلة : كمْ ينجح الفكر المثمر، في فتح المجاهيل أمام الآخرين ،حين يقدّم بطريقة ذكية! طريقة لا تسيء إليه كفكر ولا لأسلوب من يسعى لتقديمه كمحمولٍ ثقافي ضمن عمله الأدبي . وهذا ما أعطى المستوى الفني حرّيّة أكبر، ليتحرّك المسرود رشيقاً دون إملال عبر حيل الكاتب السردية اللّطيفة، دون إغراق في الوصف،أو إسهاب في الاستطراد .كما نجح في تذرير المقولات الفلسفيّة الجافّة عموماً ـ لكنّها لدي ” نيتشه” حقيقة مشبعة بالأدبيّة ـ وهذا بدوره قد سهّل مهمّة المؤلّف بتطريزها أدبيّاً ضمن منمنمات السّرد ، فحاك خيوطه الدّراميّة المتصاعدة الحدّة بما يتناسب وإيقاع الحوار بين الشخصيّتين الأساسيتين” الطّبيب والفيلسوف” دون أن تفقد بريقها الجمالي.وقد نجح أيضاً في كسر تراتبيّة الزمن الكرونولوجيّة فاستقدم الماضي من خلال الحاضر، مستشفّاً للمستقبل ومطعّماً زمنه الفيزيائي الذي ـ دلّل عليه بتواريخ حقيقيّة مختلفة ـ بتوابل الزمن السيّكولوجي للشّخصيات ذاتها، وهي تبدع عبر تداعياتها النفسيّة ومونولوجاتها، زمنها الخاص إلى جانب زمنها الروائي لحظة الكتابة. وأسلوبه السينمائي ” الخطف خلفاً” وخلطه الماهر للواقعيّ بالتّخييليّ ـ حتى ليصعب التّفريق بينهما لولا ملاحظات المؤلف المرفقة بنهاية الرواية ـ أضفيا بريقاً إضافيّاً على القراءة.وهذا يشكّل ضرورة قصوى لأي عمل فني يريد إقناعنا كقرّاء بأنّ ما نقرؤه هو الحقيقة بعينها.أمّا بخصوص المكان،فقد بدا الفضاء الروائي مستوعباً باقتدار للمكان بمعناه الجغرافي” إيطاليا،ألمانيا،المقبرة، عيادة ” لوزون” التي كانت مسرحاً يفور بعبق المعرفة والكشف،” وللمكان الفنّي التّخييلي الذي افترضه الكاتب لدوران الأحداث وتشابكاتها الدراميّة التي صاغتها شخصيّات حيويّة لها قامة المعرفة العالية ذاتها .حيث نراه مفصّلاً على قدّها دون غلوٍّ أو شططٍ،أو إسقاطٍ لذاتيّة المؤلّف عليها .بل نرى جهده واضحاً في الولوج عميقاً في مفازاتها .والارتقاء الجادّ إلى مصافيها .كما شكّل العنوان باعتباره فاتحةً نصيّة لمجمل العمل المسرود .بوّابة عالية السقف ، دلفَ النّص برشاقةٍ من تحت قوسها .وعبر رحلةٍ أوبٍ وذهاب لاتكلّ من وإلى النصّ بدأ العنوان رحلة تيهه..فكثيراً ما كان يرشح من ضمن فراغات عمارة النّصّ ،كعشبٍ نديّ مندغماً حدّ التّطابق مع مقولة الرواية الجماليّة والمعرفيّة العالية .التي تدرّجت من فكرة مكابرة الفيلسوف للاعتراف بهواجسه وتغليفها بصرامة القول الفلسفي ومنطقيّته لتنتهي باعترافٍ حقيقي من قبله بأنّه إنسان،وحيد، متناقض حكمت تجربته المرّة مع المرأة،قناعات صارمة غلّفت مجمل حياته.لكنّه بدا تحت مُجهِرِ التّحليل النفسي كأيّ كائنٍ محكوم بأورام طفولته ومؤثّراتها التّربويّة المتراكمة والمتناقضة.وتطعّمتْ رؤاه فيما بعد بفلسفةٍ أكاديميّة تدعو لتفوّق الكائن على سلبيّته وضعفه. لقد اندمج العنوان مع المقولة الفلسفيّة وتشرّبها تماماً. لتهطلَ دموعُ ” نيتشه” بغزارة من عيون القارئ كما الشخصيّة المتخيّلة. وليحظى الاثنان بالوصول إلى منزلة التّطهّر وقد تفكّكت المنظومات المنغلقة ،مفسحة المجال لحوار بنّاء عالي الإيجابيّة.أراه ضرورة لكلّ خطابٍ ثقافي ينشد الإضافة والفعل.لا التّهديم وحسب.مع أنّ التّهديم قد يكون حلّاً أحياناً .وهذه صفة مميّزة من صفات الفلسفة النيتشويّة وإحدى علائم حيويّتها حتى الآن لأنّها تلامس السّؤال الوجودي الجوهريّ للكائن على اختلاف الأزمنة والثقافات.
أشبه بخاتمة :
ــــــــــــــــــ
” ما فائدة كتاب إذا لم يحملنا أبعد من جميع الكتب ” مقولة جدليّة ذكيّة اجتهد الكاتب في إّبرازها وتمثلها فأبدع عملاً ،أظنّه يشكّل إضافة لثقافة كلّ قارئ، مهما ادّعى أنّه لا يحتاجها.تلك المقولة التي سارت بخفّين رشيقين ” فلسفي ونفسي” وهرولتْ بنا خبباً، لمسافةٍ تنوف على الخمسمائة صفحة من التّشويق والإزهار والتّحفيز لذائقتنا وأدواتنا المعرفيّة . والإقلاق لذهنيّة التّلقي السّلبي التي روّجتها أعمال كثيرة تدّعي الأدبيّة. تُنشرحولنا من كلّ حدبٍ وصوب . وها نحنُ نفرح حين نحظى بعمل فنّي يحترم الذّائقة القرائيّة ويعيد للذاكرة الإنسانية ألق ومجد القارئ .دون أن يفقد بوصلته الفنيّة كعمل جمالي بالدّرجة الأولى. لقد عرّتْ الرواية المعرفيّة بكامل البساطة ،مقولة “الاكتفاء الثقافي” وبأنّنا مهما بلغنا شأناً في الثقافة . سنبقى أبناء مؤثّراتنا البيئيّة الأولى التي جبلت طفولتنا وغلّفت شخصياتنا بكثرة الرقابات والتابوات والأمراض النفسيّة .وللأسف، يلجأ الكثير منّا بدل التعرّف على ذاته وغربلتها من عيوبها الثقافيّة والنفسيّة، إلى تقمّص شخصيّات أخرى غير شخصيّه الحقيقيّة .وهذا بدوره ينشئ شخصيّات متورّمة النرجسيّة ومكابرة ومأزومة دوماً. مهما ادّعت عكس ذلك .وقد نجحت الرواية ،خصوصاً، بأن تمرّر الفكر الفلسفي النيتشوي القائم على كسر اليقينيّات والشّكّ وتمجيد الألم البشري عبر خلق الكائن المتفوّق على ذاته في كلّ منّا. فهل ثمّة مقولة يانعة تكسر نمطيّة الذهنيّة القائمة على تصوّر الأمل، كما درجَ عليه العرف الثقافي البشري ،عموماً، كمقولة ” نيتشه ” في كتابه ” هو ذا الإنسان ” القائلة : / بأنّ الأمل هو أعظم الشّرور، حيث أنّ ” زيوس ” قد استحلف رسوله وهو يبثّه تعليماته للبشر بأن يفتح صندوق ” باندورا ” لتطير منه جميع الشرور، إلّا الأمل الذي بقي سجيناً فيها كشرٍّ نهائي. فكرة الأمل،والتّوق إلى المجهول، التي يلهث الإنسان طيلة حياته في الوصول إليها ، ويرمي شباكه ذات اليمين وذات الشمال ،علّها تعلق بسنّارته ،ولكن هيهااااات.
ثمّ ، أليست هي مع كلّ ذلك تبقى معضلة الفكر وسؤال المعرفة الذي لا يخبو بريقه أبداً.!
مجلة نزوى العمانية
Post Views:
0