في السياسة، كما في الحياة، كما في التجارب الكيميائية، ينسى الناس التجارب الفاشلة ويبقى في ذاكرتهم ما نجح منها فقط. عندما يتحدث اللبنانيون اليوم، يركلون مآسي الحرب الأهلية (1975 ــ 1990) ويتحدثون عن اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب بعد 15 عاماً من اندلاعها. وعندما يتحدث العراقيون اليوم، يركلون مآسي الغزو الأميركي على العراق (2003) ويتحدثون عن خروج الجيش الأميركي (أعلن بتاريخ 21 تشرين الأول 2011). سوريا ومعها السوريين اليوم، تعيش هذه التجربة وهذا الاختبار.
سوتشي | تجربة تطويع التسوية السياسية للمستجدات من المتغيرات الميدانية السورية والإقليمية والدولية، بحيث يكون بالإمكان تقديم جرعة أمل بإعادة البناء، لأن البديل الوحيد عن هذا هو القتال المستمر الذي سيفضي ومهما طال أمده إلى طاولة حوار يترأس جلستها سؤال: لماذا حدث كل ما حدث؟ ألم يكن هناك من ثمن للتغيير إلا هذا الدمار؟
1500 شخص من السوريين اختيروا لحضور «مؤتمر سوتشي»، رقم كبير فرض تساؤلاً مشروعاً: هل هو مؤتمر حوار أم دعوة لعرس، أم هو دورة ألعاب شتوية ستقام على شرف السوريين في سوتشي؟ فوفقاً لجدول المؤتمر الذي تضمن يوم عمل واحداً، لا يكفي هذا اليوم لتعريف المشاركين بأنفسهم، هذا إذا تمتع المشاركون بالرشاقة (لم يكونوا رشيقين أبداً، كانوا يحتاجون إلى مزيد من العصي للتحاور) وإذا كان منظم المؤتمر سخيّاً معطاءً (كان سخيّاً مع الموالاة أكثر).
مؤتمر الحوار الوطني الذي عقد في سوتشي لم يكن مرسوماً له أن يأتي بالجديد. الجديد حددته القمة الثلاثية التي جمعت رؤساء روسيا وإيران وتركيا، في المدينة نفسها (في 24 تشرين الثاني الماضي 2017)، وبعدها قمة الرئيسين الروسي والسوري (21 تشرين الثاني) في سوتشي أيضاً. وحددته كذلك وزارة الخارجية السورية في اجتماعها مع المشاركين قبل انطلاقهم إلى سوتشي وبعد اتفاق مع الدول الضامنة (إيران وتركيا وروسيا) على مضمون البيان الختامي للمؤتمر، الذي قال عنه صراحة وزير الخارجية السوري وليد المعلم: «لا تستطيعون تغيير أي حرف في مثل هذه التوافقات». المطلوب كما تأكدت الشهادة وفقاً للمعارض هيثم مناع، هو «إنجاح سوتشي لإغلاق كل الأفواه وإحراج الأطراف التي تحارب نجاح المؤتمر، وسحب أية ورقة يستطيعون استعمالها ضد الدول القائمة على المؤتمر». نجاح «سوتشي» يعني أنه سيكون هناك «سوتشي» جديد مستقبلاً.
«منصة دمشق» يتيمة
قبل «سوتشي»، هتفت «منصة القاهرة» أنها الممثل الشرعي والوحيد للسوريين، وقبلها هتفت «منصة الرياض»، وقبلها «جنيف» و«فيينا» و«أستانا»، وقبل كل هؤلاء، هتف المقاتلون على الأرض ــ من الطرفين ــ أنهم الممثل الشرعي والوحيد للشعب السوري. لكن، لم يتح لدمشق ولو لمرة واحدة أن تكون الممثل الوحيد والشرعي للسوريين، لم يُسمح لها أن تحتضن أبناءها كخصوم وشركاء، رغم أنها تحتضن المشكلة والحل، تحتضن العتمة والنور، تحتضن الطاولة المستديرة التي ستجمع حولها غداً أو بعد غد قريب أو بعيد، تاجر السلاح الذي سيكون وزيراً للمصالحة وقائد الفصيل المسلح الذي سيكون وزيراً للمعوّقين، ربما. لم يتح لدمشق أن تكون حتى منتجعاً. أتيح لها فقط أن تكون مدفناً للموتى برمزية سياحية خيالية، حيث القبر يُسَعَّر بمليون وأكثر، وحيث الميت يذهب إلى العدم مطمئناً إلى أنه لم يذهب رخيصاً. أعلنت سوتشي مرة أخرى أنها «الممثل الشرعي الجديد والوحيد للشعب السوري» بعد شقيقاتها (فيينا وأستانا…)، مع أنه لدينا بحر أبيض لا أسود، ولدينا جبل قاسيون المشرف على العاصمة، وفيه تركن مغارة الدم وعلى سفوحه يتوضع المارستان والسوق والجامع والمدرسة، فيه سكن أول القادمين من القدس، وبسفوحه تتصل أحياء المهاجرين وركن الدين وأبو رمانة. حي المهاجرين الذي هربت إليه الناس خوفاً من الشام التي ما عاد القمر يظهر فيها كما قال عنها «الشيخ البهائي»، الجبل الذي جمع يوماً المهاجرين من الأتراك والشراكس وغيرهم، وحيّ ركن الدين الذي سكنه الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات في سالف الأيام، ويقطنه اليوم أكبر تجمع للأكراد المقسومين بين وطن الضرورة والواقع (سوريا) والوطن المشتهى (كردستان)، فلا هم نالوا واقع الضرورة، ولا هم طاولوا خيال المُشتهى، فجلسوا وعيونهم مسمرة على الشمال وعلى القادم من عفرين محمَّلاً بأغصان الزيتون المكسورة. في سفح جبل قاسيون أيضاً دفن الشيخ الأكبر القادم من عباءة الله و«سورة يس» محيي الدين بن عربي. بالقرب منه، توضّع حي أبو رمانة، حي الرؤساء المتعالي بوسطه التجاري على بقيّة الأحياء والمنفتح على الماركات الفرنسية والإيطالية والألمانية، في وسطه حديقة المدفع التي صمتت مدافعها عن الكلام منذ اجتاحتها عطور «شانيل» وجواهر «بولغاري». على سفوح هذا الجبل ثالثاً ورابعاً وخامساً، شمس لا تغيب، تطفئ بطلعتها جمال سوتشي.
دمشق فيها ما فيها، فأين هي منصّتها؟ ولماذا كان المؤتمر في سوتشي وليس في دمشق؟
فاتح جاموس «يتيماً»
يتيماً كان كما «منصة دمشق»، فاتح جاموس القادم على صهوة حصان النضال الجميل، خرج قبل نهاية المؤتمر بقليل: كلمة واحدة قالها: «أشعر باليأس». وقبلها بقليل كان يقول لصديقه هيثم مناع متمنياً: «عد إلى حزب العمل الشيوعي، هناك حركة مد وطني، التقطها». سُجِن جاموس 19 عاماً، كان حاضراً دائماً، تكلم منذ بداية الحراك في سوريا وانتُقد كثيراً على تصريحاته. كان مصراً على الظهور على وسائل الإعلام الرسمية ليوصل رأيه رغم الطريقة التي تعاطى فيها الإعلام معه. لامه أصدقاؤه المعارضون، ومع ذلك استمر في سعيه، قالها ويقولها دائماً: «أنا جزء من هذه الدولة، هذه دولتي، الدولة ليست ملكاً للنظام ولا لأية سلطة، لا أريد أن أكون قوّة فاعلة، ولا أبحث عن تأثيري على الأرض، لا أريد أن أكون على منصة هيئة رئاسة لمؤتمر ما، أريد أن تبقى الدولة والكيان والشعب، أريد أن يبدأ العمل السياسي في دمشق وليس في سواها، وأن لا يتوقف مهما طال أمد العنف». بعد كل هذا التاريخ، منح رئيس المؤتمر في «سوتشي» ــ وبعد نضال طويل ــ ثلاث دقائق لجاموس ليقدم ما لديه. «فاتح جاموس يمثلني لكنني أشعر بالحزن لأجله»، تقول إحدى المشاركات، وتضيف: «عليه أن يضع الشروط ويكفّ أن يكون طيبّاً متواضعاً، الدولة تتعامل معه كشخص مضمون». أما جاموس فيؤكد: «لست نادماً، سجنت 19 عاماً ولو أعيد بي الزمن مرة أخرى إلى الوراء سأكرر التجربة».
زقفة وزلغوطة
مسودة البيان الختامي كُتبت من دمشق، وعلم المشاركون بذلك. مع ذلك، توهّم السوريون أنهم تحاوروا وصوّتوا ورفعوا أيديهم للتحفظ والاعتراض مع أنهم رفعوا أيديهم أكثر لـ«الزقفة»، أحدهم علّق بالقول: «الحمد لله أنو اسم بوتين لم يذكر أثناء المؤتمر إلا مرتين، كنا هلكنا من الزقفة والوقفة». سيدة أخرى مجهولة أطلقت لسانها في زلغوطة طويلة لم نكن لنصدق لو أننا لم نسمعها.
لم يربط ركاب الطائرة السابعة العائدة من سوتشي إلى دمشق أحزمة الأمان، يقولون إنهم عائدون إلى اليقين بعدم الأمان، كما لم يربطوا ألسنتهم عن الفاقع من المفاجآت. فهذا عضو مجلس شعب منذ 23 عاماً مشارك في المؤتمر يقولها صراحة: «ليس معي شهادة ابتدائية».
بعد العودة إلى دمشق… ما الذي بقي أو تبقّى للسوريين ليقولوه؟
بقي لهم «عربة بسطة» يجرّها رغيف حاف، «ربطة أمل» يجرّها حصان كسيح، مقابر تتوزع أحياء العاصمة وضواحيها، بقي لهم الرصيف ونهر يزيد، والكثير من الأموات المعلّقون على صليب الإنجيل وهلال القرآن.
الاخبار | سناء براهيم