الإصلاحية | آثار جانبية |
في ظل تجاوز قيمة التحويلات المالية إلى سوريا مبلغ 4 ملايين دولار، يبرز دور المغتربين في ضمان الحد الأدنى من متطلبات الحياة لأهلهم وأصدقائهم. كما يلجأ الكثير من هؤلاء إلى رعاية أسر فقيرة أو عوائل شهداء، بشكل مباشر، كنوع من المساعدة في حمل أعباء الحرب والقيام بالواجب المجتمعي
تخرج أم أكرم من مكتب الحوالات، متكئة على الجدار أثناء نزولها الدرجات القليلة. تحاول عميلة أُخرى مساعدة المرأة العجوز في التحرك خارج الشركة، مع التأكد من وضع نقود الحوالة في جيب ثوبها الداخلي، خشية تعرضها للسرقة. تضحك الفتاة المنتظرة دورها: «هكذا صرنا نخشى لصوص الشارع العابرين في زمن الجوع والحاجة». تدعو أم أكرم إلى ابنها المقيم في ماليزيا، والذي يرسل إليها كل 3 أشهر مبلغ 500$، ما يكفيها حاجة الناس. فيما الفتاة التي تساعدها تعود إلى كرسيها بانتظار دورها في قبض حوالة من إحدى الدول الأوروبية. تتحدث صفاء (موظفة ثلاثينية) عن تكبدها عناء قبض مبلغ دوري لعائلة شهيد. «طلب قريب لي مساعدته في اختيار عائلة شهيد تحتاج إلى من يعيلها. وقد قدمت له بيانات عائلة نعرفها، مع تزويده برقم الهاتف الأرضي للعائلة إن احتاج إلى التواصل معهم بشكل مباشر»، تقول الفتاة، وتضيف: «يرسل الرجل مبالغ دورية في مناسبات عدة، كالأعياد وبدء الموسم الدراسي وموسم إعداد مؤونة الشتاء وبداية الصيف». تزداد الحالات المماثلة، بحسب صفاء، إذ هنالك كثر ممن يبحثون عن دور لهم في مساعدة آخرين دفعوا فاتورة الحرب وحدهم. «ولا شك أن المغترب أبرز من يوجعه العجز»، تقول صفاء. ويلجأ كثر إلى الأسلوب المباشر في الدعم المادي، بحسب قولها، وذلك لعدم الثقة في دور الجمعيات والمؤسسات الأهلية، وسط حالات الفساد التي تسود الكثير منها.
«الوطنية» بالأرقام
خلال مؤتمر «الحوار الوطني» في سوتشي الروسية، برزت بعض كلمات الحاضرين، في المقارنة بين دور السوريين في الداخل والخارج. وفي الحقيقة، فإن هذا السجال مستمر منذ اليوم الأول للأحداث السورية الدامية. من يقدم أكثر؟ ويبدأ كشف الحساب. وبين من يقدم الدم، وآخر يقدم المال، أيّ الأخوين أكثر برّاً؟! هذه عيّنة من «حفلات» التقويم. وحدها الأرقام لا تكذب، إذ إن عشرات الآلاف من السوريين الذين قضوا جراء الحرب القائمة، تركوا خلفاً لهم في أهلهم أعداداً هائلة من المغتربين. إذ توضح أرقام مبالغ الحوالات اليومية أعداد هؤلاء المغتربين بشكل تقريبي، وإن كانت الدولة السورية لا تحبذ الحديث عن ذلك، لأسباب تتعلق بالحصار الاقتصادي والمالي على البلاد. لكن المغترب العاجز ظاهرياً، لا تعييه السبل في إيجاد طرق شرعية وأُخرى «التفافية» لمساعدة أهله وجيرانه ومستضعفي بلاده. ولعلّ الحديث لا يتعلق إلا بالمغترب الذي يملك الإحساس بالمسؤولية تجاه بلاده. وهو أمرٌ تفرضه التربية والصفات الشخصية ويختلف بين شخص وآخر، كما تتناقض صفات سكان الداخل. وتتجاوز التحويلات اليومية إلى سوريا مبلغ 4 ملايين دولار، وفق دراسة أصدرها مركز «مداد» الدمشقي للأبحاث والدراسات. وتستعين الدراسة ببيانات صادرة عن «البنك الدولي» قدرت قيمة التحويلات المالية إلى سوريا بمبلغ 1.62 مليار دولار، خلال عام 2016، لتشكل تحويلات المغتربين المالية نسبة تتجاوز 83% من مبالغ الدعم الاجتماعي، وسط غياب البيانات الدقيقة للأرقام المتداولة.
«صاحب الظل الطويل»
في أحد بيوت الصفيح في ريف اللاذقية أقامت رؤى، المرأة التي لم تتجاوز الخامسة والعشرين من عمرها، مع ثلاثة أطفال تعيلهم وحدها، إثر استشهاد زوجها في إحدى معارك ريف حمص قبل عام. البيت الذي لا يقيها وأطفالها الحرّ أو الصقيع، قدم لها استقلالية وأبعدها عن المشاكل العائلية الناجمة عن الفقر، لدى كل من عائلة زوجها ووالدها. وفي ظل رعاية أحد المغتربين المجهولين للمرأة وأطفالها، تمكنت من استئجار شقة متواضعة في العشوائيات، مكونة من غرفتين، وبدأت بشراء أثاث لها تدريجياً. تقول المرأة عن التجربة الغريبة، بالنسبة إليها: «الأمر أشبه بقصة صاحب الظل الطويل. أنا لا أعرف المتبرع، ولعلّه لا يعرفني. إنما يعرف حالتي. يأتيني المبلغ شهرياً عن طريق امرأة تعرف أهلي. تكتفي بالقول إنه مغترب، وتطلب إليّ أن أدعو له»، تقول. تدعو رؤى لهذا الرجل باستمرار، وتقبّل المرأة التي تأتيها بالراتب الشهري بحرارة. 100$ شهرياً قد لا تساوي شيئاً لـ«صاحب الظل الطويل»، كما تلقبه رؤى، غير أنه يقدم سبباً من أسباب الحياة لعائلة يائسة، وهو جزء من واجب الجميع. وجدت المرأة عملاً في صالون تجميل، ضمن الحي الذي انتقلت إليه، ما جعل دخلها مقبولاً وسط الغلاء الذي يخيم على البلاد.
تكافل اجتماعي فردي!
الكثير من المغتربين ذاقوا آلام الغربة الإضافية بفعل الحرب، وسط القلق على عائلاتهم وذكرياتهم. يقول حسن (مهندس بترول): «مع بدء الحرب، ذبحني الخوف والضياع. لم أعرف إلى أي وطن أعود بعد انتهاء عقد عملي يوماً ما. كنت أضرب على رأسي بيديّ وأندب. ماذا يجري لبلادي؟ وماذا أفعل في الخارج؟ ولماذا يموتون وحدهم، بينما أنا هُنا». ويضيف: «شعرت أمي بوجعي، فجمعت جاراتها وقررن حصر أعداد الأيتام والأرامل، بمن فيهم عوائل الشهداء، وقدمت لي قائمة طويلة، وقالت بقوة: تكفل بالعائلات التي تقدر على دعمها، وأعطِ الباقي لأصدقائك ممن تعرف عنهم حب المساعدة والواجب». يبعث المهندس، المقيم في الإمارات، مبلغاً كبيراً لشخص يثق به، فيوزعه على خمس عائلات تبنّاها، إضافة إلى رعايته المادية لأمه وإخوته. ويشير إلى أن أعباء الجميع ازدادت خلال الحرب، قائلاً: «علينا نحن أيضاً أن نبذل فوق طاقتنا، مثلما يفعل من هم في الداخل». وإزاء هذا الدور الأساسي للمغتربين في حياة سوريي الداخل، فقد أصدر «مصرف سوريا المركزي»، مطلع كانون الأول الفائت، قراراً يسمح للمغترب بتحويل أي مبلغ بالعملة الأجنبية إلى سوريا ويتيح تسلّمه نقداً بالعملة الأجنبية أو قيداً في حساب في أي مصرف، أو تحويله إلى الليرة، ما قطع الطريق على التحويل عبر السوق السوداء والمضاربين. ولقي القرار ترحيباً في الشارع السوري، إذ أفضى إلى تحويلات مالية يومية خلال فترة أعياد الميلاد وصلت إلى نحو 7 ملايين دولار.
المصدر جريدة الأخبار اللبنانية