دمشق | منذ الأيام الأولى للأزمة السورية، لم يكن مقبولاً بنظر البعض لجمهور أي طرف أن يتابع وسائل إعلام الآخر تحت أي ظرف. لا بل إن تلك المتابعة أو المشاهدة كان يمكن أن تتحول إلى «تهمة» تقود صاحبها إلى ما لا تحمد عقباه، وربما إلى الموت كما كان يحدث في المناطق الخاضعة لسيطرة تنظيم «داعش» وغيره. ورغم ذلك، بقي هناك من يسمع ويتابع الآخر لأسباب عدة، في حين أن هناك فريقاً عدده ليس بالقليل فضّل خيار «المقاطعة» تحت عناوين مختلفة.
فهل وسائل الإعلام على اختلاف أشكالها مؤثرة إلى هذه الدرجة في تكوين معارف السوريين ومعلوماتهم قبل الأزمة وخلالها؟ وأيّ من وسائل الإعلام المحلية والأجنبية اعتمد عليها السوري خلال فترة الحرب للحصول على معلوماته العامة أو تلك المتعلقة بأوضاع البلاد؟!
مقاطعة الصحف
في المسح الوحيد الذي نُفذ خلال سنوات الحرب، وحمل اسم مسح السكان وشمل جميع المناطق السورية بلا استثناء في منتصف عام 2014، تم، بناءً على اقتراح شخصي، طرح السؤال التالي على المبحوثين: من أين يستقي أغلب أفراد المجتمع معلوماتهم العامة أو تلك المتعلقة بالأوضاع العامة للبلاد، وتم وضع خيارات للإجابة شملت وسائل الإعلام المحلية والعربية والأجنبية (الصحف، الإذاعات، الفضائيات، المواقع الإلكترونية) والأصدقاء والمعارف، وبين مصادر أخرى.
وقد أظهرت نتائج المسح، المنفذ بالتعاون بين الهيئة السورية لشؤون الأسرة والمكتب المركزي للإحصاء والمركز السوري لبحوث السياسات، أن هناك شريحة ليست بالقليلة من المجتمع بعيدة كل البعد عن التأثر بوسائل الإعلام المحلية والأجنبية، وهذا ظهر جلياً أكثر خلال سنوات الحرب لأسباب تتعلق بصعوبة الوصول إلى تلك الوسائل، كانقطاع التيار الكهربائي، وغياب خدمة الإنترنت وتدنّي جودتها، لكن في المقابل فإن «تخندق» وسائل الإعلام إلى جانب أطراف الحرب أثّر بشكل واضح على خريطة «تموضع» متابعتها جغرافياً على الأرض السورية، إضافة إلى تسجيل تطور لافت في الاعتماد على الأصدقاء والمعارف للحصول على المعلومات المرغوبة.
في تفاصيل النتائج الكمية للإجابات المسجلة عن السؤال السابق ذكره، يلاحظ «هجرة» كثير من السوريين، وبشكل نهائي، للصحف المحلية كمصدر للمعلومة. فقبل الأزمة، لم تكن نسبة هذه الظاهرة تسجل أكثر من 12%، لكنها خلال الأزمة ارتفعت لتصل إلى نحو 54%، وتأكيداً على المشكلة التي تواجهها الصحف السورية مع قرائها، فإن النتائج تضيف أن نسبة السوريين الذين كانوا يلجأون أحياناً إلى الصحف للحصول على ما يحتاجون إليه من معلومات بلغت قبل الأزمة نحو 37,5%، والمفاجأة أنها خلال الأزمة انخفضت بمقدار النصف تقريباً حيث سجلت نحو 13,6%، وكذلك الأمر بالنسبة إلى السوريين الذين يتابعون «غالباً» الصحف المحلية، وهؤلاء نسبتهم تراجعت من 9% قبل الأزمة إلى نحو 3,4% خلالها.
النقطة الإيجابية الوحيدة المسجلة في جانب النتائج الخاصة بالصحف المحلية هي في ارتفاع نسبة القراء الدائمين بشكل بسيط من نحو 5% قبل الأزمة إلى نحو 6% خلال الأزمة.
ولم تكن الصحف العربية والأجنبية أفضل حالاً من نظيرتها المحلية، إذ تظهر النتائج ارتفاع نسبة السوريين المقاطعين نهائيا للصحف العربية والأجنبية من نحو 58.3% قبل الأزمة إلى نحو 75,8% خلال سنوات الأزمة. وحتى الذين كانوا يتابعونها بين الفينة والأخرى، فقد انخفضت نسبتهم من نحو 11,9% قبل الأزمة إلى نحو 2,3%، وهذه هي أيضاً حال القراء الدائمين، الذين انخفضت نسبتهم من نحو 4% قبل الأزمة إلى نحو 1% خلالها. هنا قد يجد البعض في غياب الصحف العربية والأجنبية عن السوق السورية خلال سنوات الأزمة مبرراً لذلك التراجع، إنما لا بد من التوضيح أن مبيعات جميع الصحف العربية والأجنبية قبل الأزمة كانت في الحدود الدنيا، مقارنة بحجم السوق السورية، وذلك وفق بيانات الشركة السورية لتوزيع المطبوعات، فضلاً عن توفر هذه الصحف على شبكة الإنترنت.
الفضائيات… والاصطفاف السياسي!
ردة فعل السوريين حيال وسائل الإعلام تبعاً للاصطفافات والمواقف السياسية الناشئة بفعل الأزمة تتبلور أكثر في طبيعة علاقتهم مع الفضائيات المحلية والعربية والأجنبية، إلا أن الحاجة إلى المعلومة المحلية بمختلف مجالاتها، والرغبة في الاطلاع على ما يقوله الآخر حيال مجريات الحرب، شكلا سبباً حال دون حدوث متغيرات عميقة في اعتماد السوريين على الفضائيات كمصدر للمعلومة خلال سنوات الأزمة، ولا سيما الفضائيات المحلية، إذ أظهرت نتائج المسح المذكور أنه في الوقت الذي كانت فيه نسبة المقاطعين نهائياً للفضائيات المحلية تتراجع من نحو 3% قبل الأزمة إلى نحو 2,1% خلال الأزمة، فإن نسبة المواظبين بصفة «غالبة» على متابعة هذه القنوات انخفضت من نحو 51,7% قبل الأزمة إلى نحو 39,8% خلال سنوات الأزمة، في حين أن نسبة المتابعين الدائمين ارتفعت بشكل طفيف خلال سنوات الأزمة، مسجلة نحو 32,2% وذلك مقارنة مع 31,4% قبل الأزمة.”
يسجّل للفضائيات العربية والأجنبية حضورها الواسع في مجريات الأزمة
يسجّل للفضائيات العربية والأجنبية حضورها الواسع في مجريات الأزمة السورية، والذي تجاوز في أحيان كثيرة تأدية الوظيفة المهنية إلى الانخراط المباشر في صناعة الأحداث وتأجيجها تحقيقاً لمصالح بعض الأطراف الإقليمية والدولية، والدليل على ذلك التحريض الطائفي الواضح الذي عملت عليه بعض الفضائيات، وتزييف الحقائق والمعلومات، وبثها بطريقة تخالف التقاليد المهنية والأخلاقية.
ومع ذلك، فإن الفضائيات العربية والأجنبية استطاعت تغيير تركيبة المؤشرات المتعلقة بموقف السوريين منها كمصدر لمعلوماتهم قبل الأزمة، إذ تشير نتائج المسح إلى أن نسبة السوريين الذين اعتمدوا بشكل دائم على هذه الفضائيات في استقاء معلوماتهم ارتفعت خلال الأزمة لتسجل نحو 23.6% مقابل 16.3% قبل الأزمة، كما انخفضت نسبة عدم المتابعين أبداً من نحو 4% قبل الأزمة إلى 2.6% خلال الأزمة. لكن في المقابل، كانت هناك نسبة من السوريين تقاطع هذه الفضائيات، فنسبة الذين اعتمدوا بصفة نادرة على الفضائيات العربية والأجنبية في استقاء معلوماتهم العامة وتلك المتعلقة بالأوضاع السائدة في البلاد ارتفعت من نحو 2,6% قبل الأزمة إلى نحو 7.7%.
هذه المتغيرات كانت على حساب عادات المشاهدة الأخرى لهذه الفضائيات، فنسبة المشاهدين غالباً تراجعت من نحو 55.2% قبل الأزمة إلى نحو 44.6%، والمشاهدين أحياناً من نحو 25.5% إلى نحو 18.1%. وبمقاربة بسيطة لكل النسب السابقة، يمكن الاستنتاج بأن نسبة السوريين الذين غيّروا من عادات مشاهدتهم للفضائيات العربية والأجنبية لتصبح «دائمة» كانت أعلى من نسبة الذين أصبحوا يتابعونها بصفة نادرة.
سطوة الإعلام الجديد
أما المواقع الإلكترونية، بما فيها شبكات التواصل الاجتماعي، فقد فرضت خلال سنوات الأزمة واقعاً جديداً، حيث تحولت إلى مصدر رئيسي للمعلومة، ومنافس قوي للفضائيات وسائر وسائل الإعلام التقليدية، رغم أن انقطاع خدمة الإنترنت عن كثير من المناطق، وتدني جودتها في مناطق أخرى أديا إلى تراجع نسبة متصفحيها والمعتمدين عليها كمصدر للمعلومة المحلية والعامة، وهذا ما تظهره نتائج المسح التي أشارت إلى أن نسبة غير المتابعين للمواقع الإلكترونية المحلية ارتفعت من نحو 14,6% قبل الأزمة إلى نحو 24,9% خلال سنوات الأزمة، كما أن نسبة المتصفحين «النادرين» تراجعت من 24,6% إلى نحو 17,8%، وكذلك الحال بالنسبة الى متصفحي «الفينة والأخرى»، والذين تراجعت نسبتهم من 39,4% قبل الأزمة إلى نحو 22,9% خلال سنوات الأزمة.
المتغيرات الإيجابية المتعلقة بنسب المتابعة للمواقع الإلكترونية المحلية تمثلت في زيادة نسبة المتصفحين «غالباً»، والتي سجلت خلال الأزمة نحو 23,8%، مقارنة بنحو 16,2% بفترة ما قبل الأزمة، كما أن نسبة المتصفحين الدائمين زادت هي الأخرى، وإن كانت بنسبة بسيطة، فقد وصلت إلى 7% وذلك مقارنة بنحو 5% قبل الأزمة.
الوضع هو نفسه في ما يتعلق بحضور الإعلام الإلكتروني العربي والأجنبي على الساحة السورية خلال الأزمة، إذ تكشف النتائج أن نسبة السوريين المتصفحين لهذا الإعلام ارتفعت من نحو 3,7% قبل الأزمة إلى نحو 5,9%، كما حققت نسبة المتصفحين «غالباً» زيادة ملحوظة وصلت إلى 20,2%، مقارنة مع 12,6% خلال سنوات ما قبل الأزمة. وفي تماه واضح مع واقع الإعلام الإلكتروني السوري، فإن النتائج أشارت إلى أن نسبة غير المتصفحين للإعلام العربي والأجنبي زادت خلال سنوات الأزمة لتصل إلى 27,7%، مقارنة بنحو 22,1%. والانخفاض الأبرز كان في نسبة المتصفحين «أحياناً»، والتي تراجعت في الأزمة إلى نحو 23,1% بعدما كانت تسجل قبل الأزمة نحو 35,2%.
المعلومة «الشعبية»
تظهر نتائج المسح بوضوح تام كيف أن كثيراً من السوريين خلال فترة الأزمة أصبحوا يعتمدون على الأصدقاء والمعارف في الحصول على ما يريدونه من معلومات تتعلق بالأوضاع العامة في البلاد، وبنسب أعلى من نسب اعتمادهم على وسائل الإعلام. فقد أكد 49.4% من المبحوثين في مناطق البلاد المختلفة أنهم خلال فترة الأزمة يعتمدون غالباً على الأصدقاء والمعارف في معلوماتهم، بينما نسبة هؤلاء لم تكن تتجاوز قبل الأزمة نحو 31.9%. كذلك الأمر بالنسبة الى الذين يعتمدون بشكل دائم، والذين بلغت نسبتهم خلال فترة الأزمة نحو 18.3%، مقابل 9.9% قبل الأزمة.
في المقابل، تشير النتائج إلى انخفاض نسبة السوريين الذين يعتمدون أحياناً أو نادراً على الأصدقاء والمعارف للحصول على المعلومات، فهناك 22.6% قالوا إنهم يفعلون ذلك «أحياناً» خلال الأزمة، مقابل 40,8% قبل الأزمة، و5.6% اعتبروا أنهم نادراً ما يفعلون ذلك، وهؤلاء كانت نسبتهم قبل الأزمة تصل إلى 15.5%.
المصدر: جريدة الأخبار | زياد غصن