“قُبلة الحديقة العامة”.. والقانون

الاصلاحية | أحوال شخصية |

بقلم المحامي عارف الشعال:

من المُسَلم به أن القانون السوري أباح للشخص (ذكر أو أنثى) ممارسة جميع أشكال العلاقات الجسدية النابعة من العاطفة أو الغريزة، ولو كانت خارج مؤسسة الزواج إذا كانت برضا أطرافها المتمتعين بأهليتهم القانونية، وألا تتم بالتدليس كالوعد بالزواج، وأن تتم في الغرف المغلقة، معتبراً ذلك من منظومة الحريات الفردية التي يتمتع بها الشخص.

ولكن بالمقابل فإن القانون يقلب ظهر المجنّ لهذه العلاقات ويتدخل بصرامة إذا مورست هذه العلاقات (علناً)، ويعاقب مرتكبيها إذا تعرضوا للآداب أو الأخلاق العامة بالحبس من ثلاثة أشهر إلى ثلاث سنوات، (المواد 517 و518 من قانون العقوبات). [مصدر النص، قانون العقوبات الفرنسي]، وهي بالمناسبة المواد التي اتكأ عليها القضاء سابقاً عندما عاقب على الإفطار علناً في رمضان.

والعلنية حددتها المادة 208 عقوبات بشكل وافٍ ومنها الأعمال والحركات إذا حصلت في محل عام أو مكان مباح للجمهور أو معرض للأنظار.

أما حول ماهية جريمة التعرض للآداب والأخلاق العامة، فخير من تحدث عن هذه الجريمة وحللها أكاديمياً الدكتور “عدنان الخطيب” الأستاذ في كلية الحقوق في جامعة دمشق في خمسينيات القرن الماضي، في كتابه (شرح قانون العقوبات – القسم 2) فوصفها قائلاً: “عندما يقال الآداب العامة أو الأخلاق العامة في مجتمع ما، يقصد بذلك القواعد السلوكية، أو مجموعة الشمائل المهذبة التي تعارف الناس عليها في ذلك المجتمع نفسه.
وهذه القواعد أو الشمائل إنما تختلف باختلاف المجتمعات كبراً وصغراً، ورقياً وتأخراً، وإنما تختلف أيضاً باختلاف الزمن طولاً وقصراً.
فهي تختلف أبداً بين المجتمعات، ودائمة التطور أبداً مع الزمن، لذلك كان مرد القول بوجودها أو بتعيين حدودها الملزمة للاحترام من أجل معاقبة الذين يجرؤن على التعرض لها هو القضاء)) {ص298}

وعن الغاية من العقاب عليها يقول: “عاقب المشرع على التعرض للآداب والأخلاق العامة لفرض احترام الآداب والأخلاق التي اعتاد الناس على إلزام نفسهم باحترامها وأصبحوا يتأذون من الجرأة على انتهاكها.

وقد أراد المشرع بها حماية الجمهور من رؤية الأفعال أو المظاهر الجنسية التي تقضي الآداب الاجتماعية بالامتناع عنها أو التستر عند إتيانها، وأراد حمايته أيضاً من سماع الألفاظ المنافية للأخلاق القويمة ومن رؤية المناظر القبيحة أو المثيرة للغرائز والشهوات)) {ص299}

ويتابع: “إن غاية المشرع من النص على جريمة التعرض للآداب العامة ليست حماية فرد معين كالمجني عليه، وإنما حماية الجمهور أو المجتمع من كل اعتداء يقع عليه عن طريق المساس بآدابه العامة، لذلك اشترط فيها أن تقع علانية)). {ص308}

ويشرح الفكرة الواحدة التي تجمع بين جريمتي التعرض للآداب العامة {المادة 517} والتعرض للأخلاق العامة {المادة 518} بأنها:
((حماية الشعور العام من أن يتأذى من الجرأة على القواعد والآداب والفضائل التي تعارف الناس على احترامها، بدافع من دينهم أو عاداتهم أو بحكم التفكير السليم أو الأخلاق الفاضلة)) {ص338}

أما عن الجهة المخولة بتحديد فيما إن كان هذا الفعل يشتمل على التعرض المذكور من عدمه فيقول: “يبقى للقضاء السلطان الأعلى في التقدير وعدم الخلط بين الأخلاق العامة التي يحميها قانون العقوبات، وبين قواعد الأخلاق التي تحدد واجبات المرء نحو نفسه وخالقه والمجتمع الذي يعش فيه، والتي لا شأن لقانون العقوبات بها” {ص344}

وهذه المعايير التي وضعها تتطابق مع تلك التي أقرها العلامة “السنهوري” قائلاً: ((الآداب، في أمة معينة وفي جيل معين، هي مجموعة من القواعد وجد الناس أنفسهم ملزمين باتباعها طبقاً لناموس أدبي يسود علاقاتهم الاجتماعية. وهذا الناموس الأدبي هو وليد المعتقدات الموروثة والعادات المتأصلة وما جرى به العرف وتواضع عليه الناس. وللدين أثر كبير في تكييفه. وكلما اقترب الدين من الحضارة، كلما ارتفع المعيار الخلقي، وزاد التشدد فيه)) {الوسيط – ج1 – ف 227}

ويحدد المعيار الواجب النظر من خلاله للفعل بأنه معيار موضوعي وليس ذاتي:
((معيار الآداب أو “الناموس الأدبي” ليس معياراً ذاتياً يرجع فيه كل شخص لنفسه ولتقديره الذاتي، بل هو معيار اجتماعي يرجع فيه الشخص لما تواضع عليه الناس. وهو في ذات الوقت معيار غير ثابت، يتطور تبعاً لتطور الفكرة الأدبية في حضارة معينة)) {نفس المرجع}

ويؤكد السنهوري أن القاضي وحده هو الذي يقدر، وفق روح العصر، طريقة فهم الناس لنظم عصرهم، وما تواضعوا عليه من آداب، وتبعاً لتقدم العلوم الاجتماعية، حتى أنه اعتبر القاضي مشرعاً في هذا المضمار عندما قال:
((فالقاضي يكاد إذن يكون مشرعاً في هذه الدائرة المرنة، بل هو مشرع يتقيد بآداب عصره ونظم أمته الأساسية ومصالحها العامة)) {نفس المرجع}

وعليه:
هل تعتبر القُبلة في الحديقة العامة تعرضاً للآداب والأخلاق العامة في مجتمعنا الشرقي؟؟
مع الأخذ بالاعتبار أن هذه الممارسة الفطرية قد تتطور لأفعال جسدية تخدش الحياء العام!

سؤال كبير برسم دراسات وأبحاث يقررها علماء الاجتماع، وتبقى للقضاء الكلمة الفصل فيها عند النظر بقضية من هذا القبيل، وأنا شخصياً لو كنت قاضياً، غالباً سأتنحى عن الحكم فيها لأنها شائكة فعلاً.