حسن يوسف فخّور
ما إن يطل شباط قادماً برأسه المزاجي على رأيّ المثل الشعبي حتى يفرد ثوبه الأحمر على الحياة والأسواق، ورودٌ، دببةٌ، إكسسوارات، وساداتٌ، تحفٌ، ألبسةٌ، إشارباتٌ، وجواربٌ، تتصدر واجهات المحال وتفترش الأرصفة مع بضعة أمتارٍ من الطريق بلونها الأحمر الناري، إنه عيد الحب الأكثر رواجاً في العالم.
إذا بحثتَ عزيزي القارئ في الجذر اللغوي لكلمة “فالنتاين” لن تجد لها علاقةً بالمشاعر أصلاً، فهي اسم علمٍ روماني تعددت الروايات حوله، أشهرها حكاية القديس “فالنتاين” التي ترويها الموسوعة الكاثوليكية في عهد “كلاوديوس” الثاني إمبراطور روما، رجل الدولة القاسي الذي كان يمنع زواج الشباب لاعتقاده بأفضلية صحة المقاتلين العزاب الجسدية وفعاليتهم في الحروب، لكن كاهن روما كان يزوج العشّاق سراً من المسيحيين والوثنيين، وحين اكتشف الإمبراطور أمره قُبِض عليه، وسُجِن ثم أعدموه يوم 14 شباط من سنة 269 للميلاد، بينما يروي “جاكوبس دي فراغيني” في مجموعته الأدبية “الأسطورة الذهبية” التي يقصُّ خلالها سِيَّر حياة القديسين في العصور الوسطى أنّ “فالنتاين” دخل في مناظرةٍ مع إمبراطور روما الذي حاول جذبه للإيمان بآلهة روما إلا أنّ الكاهن المسيحي غلب “كلاوديوس”، فما كان من الأخير إلا أن سجنه، ثم أخرجه لاحقاً ووضعه تحت الإقامة الجبرية في منزل أمير بلاطه الذي حاول محاججته بقدرة المسيح على شفاء ابنته العمياء، وحين أعاد “فالنتاين” البصر إلى ابنة الأمير بعد دعاء القديس آمن أهل البيت بالمسيح، فأمر “كلاوديوس” بقطع رأسه، تتعدد الروايات حول شخصية “فالنتاين” التي تذهب في بعضها إلى ثلاثة قديسين مختلفين أحدهم استشهد في إفريقيا، تختلف الروايات حول سبب وزمن استشهاد “فالنتاين”، لكنها تتفق على يوم 14 شباط الذي صار ذكرى يحييها المسيحيون كعيد تضحية القديس “فالنتاين” بنفسه للتبشير برسالة وتعاليم السيد المسيح، فيما كان يعتقد الأوروبيون بأنّ الطيور تتزواج في منتصف شباط؛ الأمر الذي ربطه خيال الشاعر الإنجليزي “جيفري تشوسر” بتضحية “فالنتاين” من خلال قصيدته “مجلس الطيور” التي كتبها بسبعمئة سطرٍ في القرن الرابع عشر، ومع مرور الزمن نشأ عيد الحب عن الوعي الجمعي للثقاقة الشعبية الأوروبية التي ربطت رمزية الحب والخلود لتزاوج الطيور بتضحية “فالنتاين”، وأسموه “هابي فالنتاين” بالرغم من مأساته، اصطبغ هذا العيد بلون دماء “فالنتاين” القديس، الذي طغى لاحقاً على شهر شباط، وأصبح رمزاً مبتذلاً للتجارة بمشاعر الناس وتسليعها، لكنه لم يكن أول عيدٍ للحب.
يحتفل السوريون بعيد الحب منذ أكثر من أربعة آلاف عام، ويعود سبب تخليد هذا اليوم إلى الأسطورة التي تقول بأنّ عشتار إلهة الحبّ والخصب تزوّجت من الإله تموز راعي الحب، إلا أنّ تموز قُتل، فحزنت عشتار كثيراً، ونزلت إلى العالم السفلي عالم الموتى لترى تموز هناك، ساءت الأحوال على الأرض وانقطع النسل، فأرسلت السماء أمراً إلى العالم السفلي بإخلاء سبيل عشتار، عادت عشتار إلى الأرض، ومعها زوجها تموز حياً وكان ذلك يوم 11 نيسان الذي أصبح عيداً للحبّ في البلاد السورية، وبلاد الرافدين، عيد “مار صابان” باللغة السريانية، كلمة “مار” تعني السيد أو الإله، أما “صابان” تعني الحب والعشق والصبا، يتهادى العشاق في هذا اليوم زهرة الأقحوان وهي زهرة عشتار أو زهرة النرجس أو زهرة الربيع إلى جانب حلوى “مرصبان” الخاصة بالعيد، تُصنَع حلوى “مرصبان” من معجون اللوز المطحون والعسل وماء زهر الليمون، وما زالت تقليداً رائجاً في مدينة حلب حتى اليوم، وفي سياق متصل؛ اكتُشِفت أقدم قصيدة حبٍ مكتوبة في مدينة إيبلا، تعود إلى العام 2400 قبل الميلاد كُتِبت على رقيمٍ طيني بالخط المسماري، تروي معاناة عاشقٍ سوري في قصة حبٍ يعيشها من طرفٍ واحد، تقول: “أيتها المرأة المنقوش اسمها على فؤوس المحاربين.. عندما أحببتك أيقنت أن النور سيكتب على باب بيتي عبارات التمجيد.. وسيكتب اسمي على أذيال الشمس.. فماذا أفعل حبيبتي كي أكون جديرا بك؟ هل أنشر الأبيض على أبواب المدينة وأسوارها.. أعاهد نفسي ألا أحزنك يوماً”.
لم يكن الحب أحمراً، بل كان اللون الأبيض الذي تحمله هدايا عيد “مارصابان” على بساطتها في الثقافة السورية هو رمز الحب، السمة التي يضفيها اللون الأبيض على الهوية السورية من العمران والكساء حتى الثقافة الغذائية والشفوية.
Post Views:
0