حكواتي الاصلاحية |
لأنهما كانا الصواب الوحيد في جوقة من الأخطاء، بدا صوتاهما نشازاً وسط ذاك النشاز، وربما لهذا بالضبط لم أجد حلاً سوى أن أصرخ في وجهيهما كي يصمتا.
كتب أسامة يونس | في زمن صار بعيداً، وكنت فيه أتطفل على واحدة من أنبل المهن: التعليم، شعرت أنني لا أستطع أن “أمرر” تلك الأخطاء التي كان يرتكبها الصغار وهم ينشدون النشيد الوطني.
بقيت أياماً أخصص الحصة الأخيرة للتدريب على النشيد: قراءة وكتابة وإعراباً .. ثم غناءً مع اللحن، قبل أن أخبر المدير أنه سيشهد في اليوم التالي أداءً متميزاً، رغم أنه لم يكن متحمساً لشيء كذاك.
منذ الثواني الأولى كان ثمة كارثة في الباحة: الجميع يؤدون النشيد كما كانوا يؤدونه في السابق، لكن المشكلة لم تكن هنا، بل في محمد وعدنان الغبرة اللذين بدآ أداء النشيد كما يجب أن يكون، وصارا يحاولان أن يرفعا صوتيهما أكثر في محاولة للتغطية على جوقة الخطأ، وربما كي يثبتا لي على الأقل (كانا يعرفان بالفطرة أن المدير “مش فارقة معاه”)، أنهما يعرفان الصح. نظر إليّ المدير متشفياً كأنه يقول: “هاي الشوربة اللي كنت محضرها أستاذ؟”
لم يكن مشهد “الشوربة” ذاك متناسباً مع الروح الجادة التي كنا نحاول إظهارها ونحن نقف باستعداد في حضرة النشيد. ولم يكن ثمة أي حل سوى أن يصمتا، لكنهما ورغم كل نظراتي المتوسلة لم يفعلا، فالصح صح .. ولن يصح إلا الصح. عندها وأمام نظرات المدير لم أجد سوى أن أطلب منهما وبنوع من الصراخ أن يصمتا!
بالنسبة لهم، كانت هيئة المدير في الباحة تحيلهم إلى ما اعتادوا عليه، وبالنسبة إلي كانت نظرات المدير تدفعني لإسكات الصوت الذي بذلت جهداً كي أسمعه.
منذ دخلت الصحافة من أضيق أبوابها، لا يفارقني ذلك المشهد، حتى أنني أكاد أسمع صوت عدنان، وأرى تلك الدهشة في عينيه وهو لا يفهم لماذا طلبت منه أن يصمت بعدما كان منتشياً وهو يردد ما يعتقد أنه الصواب.
خطواتي الأولى في الصحافة، كانت على هدي “لا يصح إلا الصحيح” كنت في صف من يحاولون “التشويش” على ما يعتقدون أنه خطأ (ذلك أن أحداً لا يمتلك مفاتيح الصحيح). كنت أحاول أن أكون في صف عدنان، لكن سرعان ما تكتشف أن الباحة هنا أكثر تعقيداً، إذ لا يكتفي “المعلمون” فيها بطلب الصمت، بل يشجعون أصحاب الخطأ الشائع على رفع الصوت أكثر، هكذا تكتمل الجوقة ويطرب الكل للكل، ولا يهم بعدها إن سخروا حتى من أنفسهم قبل أن يستسلموا للنوم، ولعلهم لا يفعلون فكثرة الإطراء توهم الأحمق أنه عظيم، ويصير ما يراه هو الصحيح، بدليل أنه شائع.
حتى في اللغة يا عدنان: خطأ شائع أفضل من صحيح مغمور!
لماذا يكون الصحيح مغموراً؟ هذا سؤال لا إجابة عليه إلا على طريقة تفسير الماء بالماء: لأن الخطأ هو الشائع.
كل شيء حولك مُعَدٌّ كي يصير النشاز، هو التشويش على النشاز.
المصدر: مسارات
Post Views:
0